عندما أراد أنصار إيران ونصر الله من المصريين والعرب الآخرين التعبير عن فرحهم بالاتفاق بين إيران والمجموعة الدولية، من أمثال محمد حسنين هيكل وفهمي هويدي وبشار الأسد والمالكي، ما ذكروا «انتصارات» حزب الله على الشعب السوري في القصير والقلمون.. وتلة موسى كما فعلوا من قبل، بل ذكروا حرب العام 2006 ضد إسرائيل، وانزعاج إسرائيل من الاتفاق، وتمكُّن إيران ونصر الله من «إخراج» أميركا من المنطقة! وهم دعوا العرب الخليجيين بالتحديد للالتئام بإيران في طرائق التجاذب والتفاوض مع الولايات المتحدة – تمامًا مثلما كان اليساريون العرب يطلبون من الدول العربية بعد كل معركة مع إسرائيل، الاقتداءَ بها وبالدول الشيوعية في إقامة الكيبوتزات وجيش الشعب، للوصول إلى «النجاحات» التي تحققت لإسرائيل وللأنظمة الشيوعية!
إنّ أول شروط مواجهة التحديات الداخلية والإقليمية والدولية، هو الخروج من حالة الخيبة والكآبة وفقد الثقة بالنفس والآخرين. وأنا أرى أنه بعد عاصفة الحزم وإعادة الأمل، ما عاد هناك مبرر للضياع الذي يُحسُّ به المثقفون والمعلِّقون السياسيون والصحافيون. فقد اتضح الطريق الذي نحن قادرون على سلوكه للدفاع والتصدي، وليس في اليمن فقط؛ بل في سائر الأنحاء المضطربة بسبب التدخلات والانقسامات: دبلوماسية قوية ونشِطة في المنطقة ومع العالم الإسلامي والعالم الأوسع، وقوة عربية تسند هذه الدبلوماسية بحسب ما تقتضيه المصلحة تحت السقف الدولي أو في موازاته. وبهذه الحالة الاستراتيجية والنفسية والشعورية والعقلية نستطيع تأمل الوضع الراهن والحالة في المنطقة قبل الاتفاق النووي وبعده.
ما كان من الطبيعي أن يستمر الحصار على شعب كبير مثل الشعب الإيراني بسبب سياسات حكومته في المنطقة وتجاه العالم. لقد كانوا يتظاهرون في طهران ومشهد خلال شهر رمضان بسبب ارتفاع أسعار «الفراخ» من نصف دولار «للفرخة» الواحدة إلى 5 دولارات. و40 في المائة من الشعب الإيراني تحت خط الفقر. وقد زارني قبل شهور أكاديمي إيراني كبير، قال لي إنّ مرتبه يعادل 198 دولارًا، وسألته: كيف تعيشون؟ فأجاب خَجلاً: بالفساد والصفقات الصغيرة ومداهنة المسؤولين الفاسدين والتقرب بشتى الوسائل من أحد العاملين في أجهزة الولي الفقيه أو الحرس الثوري! أما مسألة النووي فلو كانت علاقات الحكومة الإيرانية بالعرب معقولة، لكان يمكن استخدام المسألة (سواء أكانت وهمية أم حقيقية) لكبح النووي الإسرائيلي. وعلى أي حال فإنّ الاتفاق الأخير أبقى إيران على «عتبة النووي» للعقد المقبل. فيمكننا نحن العرب الوصول خلال خمس سنوات أو عشر إلى العتبة ذاتِها وبالتنسيق مع الوكالة الدولية للطاقة، كما فعلت ألمانيا والبرازيل واليابان وغيرها. ولذلك فدعونا نخرج من أَوهام النوويات والعبقريات الإيرانية والنصراوية إلى المشكلات الحقيقية التي بدأنا أخيرًا بمواجهتها بصدقٍ وصراحة مع النفس والآخرين.
ما غيَّر أوباما استراتيجيته التي جاء بها أو بواسطتها للسلطة: عدم خوض حروب جديدة بالمنطقة والعالم، والاعتراف بتعدد القوى في المجال الدولي والإقليمي، والدخول في مفاوضاتٍ توصلُ إلى شراكاتٍ معها إنْ أمكن. وإلى جانب هذه الاستراتيجية الجديدة، كانت هناك وما تزال لديه ولدينا نحن استراتيجية مواجهة التطرف والإرهاب ورموزه حتى اليوم هي في معظمها قاعدية و«داعشية»، وقد صارت في تخطيطها وحركاتها عالمية مهولة. وكما تفترق أو تختلف التقديرات بيننا وبين أوباما في الأمرين (أمر التعددية الإقليمية والدولية، وأمر مواجهة الإرهاب)؛ فكذلك تختلف التقديرات بين إدارة أوباما وإسرائيل: إسرائيل تعتبر إيران أخطر عليها من «داعش»، وصارت أخيرًا تعتبر النظام السوري (باعتبار استيلاء إيران عليه)، أخطر من «الإرهاب الإسلامي»!
إنّ لدينا كما صار واضحًا عشية عاصفة الحزم أربعة تحديات رئيسية: مواجهة حالة التفكك في الدول والمجتمعات، ومواجهة الإرهاب وخلفياته وأصوله في «الإسلام الجهادي» و«الإسلام السياسي»، ومواجهة التدخل الإيراني العسكري والأمني والمذهبي، ومقابلة (والتعامل العاقل مع) المتغيرات في المشهد الإقليمي والنظام الدولي.
إنّ التحديين الأول والثاني (التفكك والإرهاب) هما الأخطر في التحديات الأربعة؛ لأنّ التماسك الكياني والدولتي، والمستند إلى التماسك الاجتماعي – السياسي، هذان التماسكان هما اللذان يحولان حتى الآن دون بروز «مجموعة استراتيجية» عربية تستطيع الانطلاق للفعل في الاتجاهات كافة: الدبلوماسية والأمنية والعسكرية. وقد حدثت حالة التفكك هذه بسياسات وأفعال الأنظمة الأمنية والعسكرية منذ السبعينات والثمانينات من القرن الماضي. وهي التي أدت إلى ضياع العراق، والفوضى الهائلة في سوريا وليبيا اليوم. بل إنّ تلك الأنظمة التي وضعت المجتمعات في مواجهتها هي التي خلقت مساحة الفراغ التي يرتع فيها التطرف والإرهاب. والخيار المتاح الآن في الحالتين مواجهة الظاهرتين معًا: الاستمرار في مكافحة الإرهاب والتطرف ولو بالتعاون مع الغربيين المتضررين منه مثلنا، وإزالة الأنظمة (مثل النظام السوري) التي أدت إلى هذه الحالة المزرية. والنجاح المنتظر في مصر سيدفع بالضرورة باتجاه النجاح في ليبيا. بل إنّ النجاح في اليمن، سيدفع باتجاه النجاح في الخلاص من الأسد و«داعش» في سوريا. وخلال ذلك علينا العمل على استعادة الإسلام ممن خطفوه دونما مكابرة. لقد انفجر الدين بأيدي الدول والمجتمعات، وبعد الأمن الدولتي لا بد من استعادة الاستقرار والتماسك باستعادة الأمن الديني.
ولنصل إلى تحدي التدخل الإيراني، الظاهر منه في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وهو هناك أمني وعسكري. لكنْ هناك أيضًا الهجمة المذهبية، وهي ليست قاصرة على محاولات التشييع أو نشر التشيع الديني والسياسي، بل هناك اليوم «تشيع عربي» أو في أوساط الشيعة ذوي الأصول العربية والذين يبدون أكثر إصرارًا من الإيرانيين على الغلبة والتهجير والكراهية. وهذا الأمر نشهده نحن في لبنان، ويشهده العراقيون ويشهده البحرينيون والكويتيون واليمنيون. بالأمس جاء إلينا في لبنان نائب كويتي شيعي غرضه من المجيء زيارة قبر عماد مغنية الذي حاول اغتيال أمير الكويت عام 1986. والشيعة الكويتيون مثل اللبنانيين غير مظلومين، والنظام معهم. وقد هب الشعب الكويتي عن بكرة أبيه عندما تعرضوا للإرهاب. إنّ هذه الحالات الجديدة تحتاج بالفعل إلى صبرٍ وتواصل، لكنْ لا تفيد في كبحها في المدى المتوسط غير إجراءات الدولة الوطنية والحكم الصالح. لا يمكن أن نقاتل الدواعش، لاستبدالهم بدويلات بالداخل أو وجوه غَلَبة أُخرى مثلما يحصل في لبنان والعراق وسوريا واليمن.
ولا غبار على الحركة الدبلوماسية الخليجية والعربية مع العالم والناشطة دومًا، والعلاقات بالدول الإسلامية الكبرى والوسطى ممتازة. ولا بد من عملٍ أكثر مع تركيا للحيلولة دون تدخلاتها الإعلامية من جهة، والتنسيق أكثر بشأن سوريا والعراق. لقد بدأنا بجمع قوانا وإبرازها، وسيكون ليوم الجمع ما بعده:
تعدو الذئاب على مَنْ لا نيوبَ له
وتتقي صولة المستأسد الضاري