ما دام الوضع اللبناني معلّقاً في انتظار مآل الصراع السوري، فإن التدخل الروسي يشكّل معطىً جديداً ينبغي النظر في انعكاساته، المباشرة وغير المباشرة، على لبنان. ومهما راعت موسكو خصوصيات ايران ودورها ونظام بشار الاسد وطموحاته أو تجاهلت الشعب السوري وتضحياته طوال خمسة أعوام دموية، فإن الواقع فرض حسابات لم تكن واردة حتى الآن. ذاك أن حجم التأثير والقرار الروسيين كبر تلقائياً على حساب النفوذ الايراني في سوريا، وإلا لما لبّى فلاديمير بوتين رغبة دمشق وطهران في تدخله مباشرة، فهو متحالف معهما لكنه مدركٌ أنهما استدعياه من موقع عجز لا من موقع قوة، وبالتالي فإنه لا يرسل قواته للعمل تحت إمرتهما أو وفقاً لخططهما.
في المقابل استبقت موسكو تحرّكها الحالي بسلسلة تعهّدات ووعود لإحاطة تدخلها بشبكة أمان سياسية، تستند الى تفاهمات اساسية مع الولايات المتحدة وإلى توافقات جزئية مع أطراف عرب واوروبيين. وبناء عليه فإن الروس مجبرون على أخذ كل ذلك في الاعتبار لئلا يتحوّل دورهم الى مغامرة خاسرة أو تورّط يغرقهم في رمال سوريا المتحركة. ونظراً الى أن الصراع السوري بلغ مرحلة البحث الجدّي عن حلّ فإن تذويب الدور الروسي في “المشروع الايراني” أو في “محور الممانعة” سيعني تحجيمه وإفشاله، لذلك تبدو طهران مضطرة لقبول صيغة “انقاذ ما يمكن انقاذه” من نفوذها، كما يبدو نظام الاسد مجبراً على لعب اللعبة آملاً في أن تحافظ موسكو على تمسكها بـ “شرعيته” ونيتها اعادة تأهيله حتى لو فرضت عليه بعض الجراحات الهيكلية التي يستشعر فيها إضعافاً لعصبه وعصبيته.
بالطبع هذا لا يعني أن روسيا آتية لتطبيق نظرية “المدينة الفاضلة” أو لإرساء نموذج لدولة حديثة كما ادّعت الولايات المتحدة لدى احتلالها العراق، إلا أن القبول الاميركي (والعربي والاوروبي) المبدئي بالدور الروسي يرمي خصوصاً الى تغيير المعادلة التي كانت ايران رسمتها وبدأت تروّج لها لتفتح مزاداً دولياً على تقطيع الجغرافية السورية مع ما يتمدّد منها الى دول الجوار، ومنها لبنان. وما الجدل الدائر حالياً سوى محاولات اميركية وايرانية للتأثير في الخيارات الروسية أو لتقنينها. فالكل يعلم أن روسيا آتية لخدمة مصالحها أولاً، وأن خبرتها في ادارة تدخلاتها الخارجية تتصف بالصلف والهوَج أكثر ما تتصف بالحكمة أو القوة الهادئة، ولذلك سيكون الاختبار الحقيقي لها في تحديد مصير الاسد.
بموازاة هذا التغيير في المعادلة تستمر ايران في مراجعة شاملة لاستراتيجيتها الاقليمية، ففي العراق تشهد بيئتها الحاضنة تحوّلات مقلقة وإنْ غير معادية، وفي اليمن تتأكد خسارتها أكثر فأكثر، وفي سوريا تضطر “للاستعانة بصديق” لكنه هذه المرة دولة كبرى لها أهدافها. اذاً، يبقى لبنان نقطة القوة الوحيدة “المضمونة” لايران بفضل ميليشيا “حزب الله”. لكن المراجعة نفسها مقبلة على اعادة تعريف وظيفته لبنانياً وايرانياً.