لو اعتبرنا أن ما دأبت الولايات المتحدة على التلويح به ضد إيران هو مجرد «تحرش سياسي»، فإنه بالتأكيد يكفي لإفهام القيادات الإيرانية بأن عليها أن تعيد النظر في كل حساباتها، وأن تأخذ بعين الاعتبار أن واقع هذه المنطقة لن يبقى على ما هو عليه، وأن تمددها الإقليمي في بعض الدول العربية مصيره الانحسار القريب، وأن أوضاعها الداخلية ستتغير حتماً، وأنه حتى الأكثر تطرفاً من كبار المسؤولين الإيرانيين سيكتشفون بعد هذه الانتخابات الأخيرة أنهم في انتظار متغيرات خطيرة كثيرة.
والمفترض أن هؤلاء وهم منهمكون في هذه الانتخابات «الاستعراضية» الأخيرة قد استمعوا لتصريحات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو التي قال فيها إن بلاده متمسكة بسياسة الضغط على إيران، وإن حملة الضغوط هذه مستمرة، وإنها لن تقتصر على الأمور الاقتصادية، وإنه ستكون هناك أيضاً عزلة دبلوماسية.
والواضح أن المواقف الأميركية في هذا المجال فيها كثير من الحزم والجدية، وأن هناك متغيرات كثيرة متوقعة، وذلك رغم أن نظام الملالي كان ولا يزال صاحب «تقية»، وأنه يظهر غير ما يضمر، وأنه كان قد مرر على أميركا وعلى غيرها مناورات وألاعيب كثيرة، والمعروف أن واشنطن في عهد جورج بوش كانت قد ارتكبت أكبر حماقة سياسية عندما فتحت حدود العراق الشرقية بعد إسقاط نظام صدام حسين في عام 2003 أمام تدفق إيراني في موجات بشرية متتابعة ومتلاحقة، وكانت النتيجة هذا الواقع الحالي، وهو هذا الخلل «الديموغرافي» والسياسي الذي يعاني منه العراقيون؛ «شِيعتهم» قبل «سُنَّتهم».
إن الدليل على أن إيران اليوم هي غير إيران الأمس هو «مسرحية» هذه الانتخابات الأخيرة التي فاز بنتائجها الأكثر تشدداً و«عنجهية»، وهذا وبالتأكيد ستكون نتائجه المزيد من الصراعات الداخلية، فهناك حتى من بين قيادات الصف الأول من لم يعد يحتمل كل هذا الذي يجري، ومن بات يتوقع انهياراً شاملاً؛ اقتصادياً وسياسياً، وأيضاً على الأصعدة الاجتماعية.
وبالطبع؛ فإن هناك من لا يستبعد أن يلجأ حتى من هم الأكثر تشدداً في طهران إلى «التقية» المعروفة لتمرير مناورة استعراضية بالاستجابة إلى الشروط الأميركية، حيث ثبت في مرات سابقة كثيرة أن الإيرانيين بارعون في هذا المجال، وهذا كان قد حصل مرات عدة؛ إنْ في عهد آية الله الخميني، وإنْ قبل ذلك، وبعد ذلك.
والمشكلة هنا، ورغم كل هذا التشدّد الذي أبداه وزير الخارجية الأميركي في هذا المجال، أنه معروف عن الرئيس دونالد ترمب أنه كثيراً ما يغيّر مواقفه السياسية، وأنه، ورغم تشدده، كان، وأكثر من مرة، قد أعرب عن استعداده لـ«الانفتاح» على إيران، وأن بعض رموز إدارته يرون أن هناك ضرورة لمثل هذا الانفتاح على هذه الدولة التي يعدّون أنها كانت ولا تزال رقماً رئيسياً في المعادلة الشرق أوسطية، وأنه لا يجوز تركها لـ«الاستفراد» الروسي؛ حيث إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد حقق بعض تطلعات قياصرة روسيا السابقين وأيضاً تطلعات كبار قادة الاتحاد السوفياتي الشيوعيين الذين كانوا قد مدّوا نفوذ بلادهم إلى كثير من دول هذه المنطقة… مثل سوريا ومصر واليمن الجنوبي وليبيا وأيضاً الجزائر؛ وإنْ بحدود متواضعة.
والمشكلة في هذا المجال أن حسابات الأميركيين حتى الآن تختلف كثيراً عن حسابات العرب الذين يعدّون أن التمدّد الإيراني في هذه المنطقة العربية يشكل خطراً فعلياً يقترب حتى من الخطر الإسرائيلي، وأن ما فعله ويفعله الإيرانيون في هذه المنطقة يؤكد أن مُعممي قُمّ وطهران ومشهد يسعون لاستعادة ما يعدّونها «أمجاد فارس» القديمة، وأيضاً أمجاد «الصفويين»؛ نسبة إلى صفي الدين الأردبيلي.
سيحاول قادة إيران؛ «المُعممون» منهم والعسكريون، استدراج الولايات المتحدة لاستعادة علاقاتها السابقة معهم؛ حيث كانت قد فتحت حدود العراق لهم في عام 2003 ليكون هناك كل ذلك التدفّق الإيراني إلى بلاد الرافدين وليصبح هذا البلد العربي «محمية» إيرانية محرمة على أهلها من «سُنّة» و«شيعة»، وليكون الحكم فيها لكل هذه «التشكيلات» الطائفية التي، وبالتأكيد، دوافع من يقفون وراءها ويديرونها «فارسية» وليست لها في حقيقة الأمر أي علاقة بـ«المذهب الشيعي».
وهكذا؛ وإذا كانت هذه الإدارة الأميركية، التي على رأسها الرئيس دونالد ترمب، صادقة في تمسكها بسياسة الضغط على إيران، فإن عليها أن تُحلَّ «الأفعالَ» محلَّ «الأقوال»، وإنَّ عليها أن تضع حداً لمحاولات الإيرانيين، عبر «حوثيي» اليمن، الوصول إلى البحر الأحمر وتجاوزه في اتجاه الشمال، وأيضاً استكمال ما سُمّي «الهلال الشيعي» الذي يبدأ طرفه الأول بالحُديدة اليمنية، وينتهي طرفه الثاني باللاذقية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، مروراً ببعض الدول الخليجية وبالطبع بالعراق وسوريا.
إنّه على الأميركيين حتى يكونوا صادقين في تهديدهم ووعيدهم ضد إيران أن يَحولوا دون وصولها إلى باب المندب، وأن ينهوا وجودها في اليمن، وأن يضعوا حداً لأن تكون إمارة قطر وعلى هذا النحو قاعدة متقدمة ليس للأتراك فقط؛ بل وأيضاً للإيرانيين الذين يواصلون تهديدهم ووعيدهم لكثير من الدول العربية الخليجية، وهذا معلنٌ ومعروفٌ وهو يقال ويتردّد في كل لحظة وعلى رؤوس الأشهاد.
ثم كيف من الممكن، يا ترى، تصديق أن الولايات المتحدة متمسّكة بسياسة الضغط على إيران في حين أن الإيرانيين يحتلون جزءاً من اليمن وحوّلوه إلى قاعدة عسكرية إيرانية تهدّد يومياً؛ لا بل وفي كل لحظة مضيق باب المندب والبحر الأحمر كله وكل دول الخليج العربي البعيدة والقريبة، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية؟!
ثم كيف من الممكن يا ترى تصديق أن الولايات المتحدة متمسكة بسياسة الضغط على إيران بينما الإيرانيون يسيطرون عسكرياً وسياسياً وأمنياً… واقتصادياً على العراق كله وعلى سوريا بمعظمها وعلى معظم لبنان؛ وهذا إنْ ليس كله… وأنهم بالتحالف مع حركة «حماس» ومع «الإخوان المسلمين» وتنظيمهم العالمي، باتوا يسيطرون أيضاً على قطاع غزة، وذلك في حين أن المعروف أيضاً أنهم يقفون خلف مجموعة فائز السراج (الإخوانية) التي تسيطر على مدينة طرابلس الليبية.
والواضح أن الأميركيين يكتفون بالإرغاء والإزباد عن بعد والحديث عن أن واشنطن متمسكة بسياسة الضغط على إيران، وذلك بينما الإيرانيون يسرحون ويمرحون في هذه المنطقة «الاستراتيجية» كما يشاءون، ويسيطرون فعلياً على العراق كله، وعلى سوريا بمعظمها، وأيضاً على لبنان؛ وصولاً إلى ليبيا وإلى تونس من خلال «الإخوان المسلمين»، بقيادة راشد الغنوشي، الذين باتوا يضعون كل هذه العراقيل أمام الرئيس التونسي قيس سعيِّد وأمام المسيرة السياسية التونسية.
وعليه؛ فإنه يجب وضع هذا كله أمام «الأصدقاء» و«الحلفاء» الأميركيين الذين عليهم أن يدركوا أن الضغط على إيران يتطلب إخراجها بكل وجودها من العراق ومن سوريا ومن لبنان ومن اليمن وقطاع غزة… وأيضاً؛ من «الشقيقة» قطر التي عليها أن تتذكر ذلك المثل القائل: «أُكلتُ يوم أُكل الثور الأبيض»، وأيضاً ذلك المثل القائل: «عدوُّ جدّك لا يودّك»!! وأنها هي أيضاً مستهدفة و«الدور» قادم إليها لا محالة…
وهكذا، وفي النهاية، فإنه لا بد من التأكيد على أنه «لا يفلّ الحديد إلا الحديد»، وأن كل هذه «العقوبات» التي تواصل الولايات المتحدة فرضها على إيران الـ«خامنئية» لن تردعها عن مواصلة تغلغلها في هذه المنطقة، فالمطلوب على الأقل أن يكون هناك دعم حقيقي لقوى المعارضة الإيرانية التي اتفقت تشكيلاتها على صيغة وحدوية واعدة في الفترة الأخيرة.