تخَلّي طهران عن القنبلة النووية، بمعزل عن كلّ ما يقال عن سلمية برنامجها الذي تدحضه الوقائع، والتعاون مع المجتمع الدولي، وتحديداً مع الولايات المتحدة، سيجعلها تعود تدريجاً دولةً عادية.
أثبتت الولايات المتحدة ومعها المجتمع الدولي أنّ الحرب العالمية الثالثة لم تعُد من طبيعة عسكرية، بل اقتصادية بامتياز، والكلام هنا عن الدوَل وليس المجموعات الإرهابية، حيث إنّ العقوبات على إيران فعلت فعلها، فدفعتها مرغمةً إلى التسليم بشروط المجتمع الدولي ومعاييره النووية، لأنّ خلاف ذلك كان سيؤدّي إلى انهيار النظام الإيراني برُمَّته.
فيجب الإقرار أوّلاً بفعالية الحرب الجديدة، وما انطبَق على طهران سينسحب على موسكو مستقبلاً، أو أيّ دولة أخرى تتحدّى الشرعية الدولية. ولو خُيِّر لطهران لما شربَت هذه الكأس المرّة التي تضعها تحت الرقابة الدولية، ولمَا اضطرّت إلى التعامل ببراغماتية مع قضية تتعارَض مع علّة وجودها التي قامت أساساً على رفض التعامل مع كلّ ما يمتّ بصِلة إلى المجتمع الدولي، ولكن لم يكن من خَيارٍ أمامَها سوى الرضوخ للشروط الدولية وإلّا الانتحار.
وما تحقّقَ هو أقصى ما يريده الرئيس الأميركي ويستطيع تحقيقه في ظروف صعبة تبدأ من الكونغرس ولا تنتهي بإسرائيل، وذلك من أجل تسجيل إنجاز يتوّج به عهدَه، ولكن ما تحقّق بالمقابل هو أدنى ما تريده طهران، ولا يلبّي طموحها ولا تطلعاّتها ولا أهدافها، ما يعني أنّ إيران أصبحَت محكومة بهذا السقف المعرّض للانخفاض لا الارتفاع في ظلّ الضغط المثلّث الفرنسي-السعودي-الإسرائيلي، مع اختلاف المنطلقات لدى كلّ دولة، هذا الضغط الذي سيُخضِع إيران لرقابة مشدّدة.
وعندما ستوَقّع طهران في نهاية حزيران على الاتّفاق النهائي، فهي ستوقّع على نهاية حلمِها ومشروعِها وهدفها بإنتاج القنبلة النووية، كما ستوقّع على طيّ صفحةٍ دفعَ الشعبُ الإيراني ثمنَها من لحمِه الحي، ووعودٍ بدولة نووية لم تتحقّق، ما يضرب صدقية هذه الدولة حيال شعبها، ويُفاقِم النقمةَ داخل المجتمع الإيراني، ويؤسّس لثورةٍ خضراء جديدة ولو بَعد حين، لأنّ النظام الحالي يتحمّل تبعات الحالة المأسوية والمذرية التي أوصِلَ الشعب الإيراني إليها.
وأمّا المخاوف من أن تستخدم طهران رفعَ العقوبات لتعزيز قدرات ميليشياتها المنتشرة من صنعاء إلى بيروت مروراً بدمشق وبغداد، فهي مخاوف مشروعة، ولكنّها لا تقدّم ولا تؤخّر، لأنّ طهران وضعَت كلّ قدراتها في مجال الاستثمار بميليشياتها، وهذا أقصى ما يمكن أن تحصل عليه، والذي هو بالمناسبة ليس قليلاً، ولكن هل باستطاعة المليارات الإضافية أن تحسمَ الوضع في لبنان وسوريا والعراق واليمَن لمصلحتها؟ بالتأكيد كلّا، وبالتالي أقصى ما يمكنها فعله هو ربط النزاع في هذه الدوَل.
ومن زاويةٍ أخرى، ليس من السهل أن تلتزم طهران بالشرعية الدولية في الملف النووي، وألّا تلتزم بها في الملف الإقليمي، أو أن تواصل تمدّدَها وكأنّ شيئاً لم يكن، لأنّه إذا كان الفصل بين الملفّين النووي والإقليمي قائماً وموضوعياً، إلّا أنّ هذا الفصل أصبح غير ممكن عملياً بعد التعاون الذي أنتجَ تسويةً في النووي.
فلا يمكن لطهران أن تتعاون في مكان، وترفضَ التعاون في مكان آخر، فإمّا أن تتعاون أو لا تتعاون، حيث المسألة تتّصل بمسار، لا قرار، وهذا المسار الذي بدأ بالنووي سينسحب عاجلاً أم آجلاً على دورها الإقليمي، ولن تقوى على الاستمرار بالنهج ذاته.
والفارق الجوهري بين مرحلة ما قبلَ التوقيع على الاتفاق النووي وبعده، هو أنّ طهران في المرحلة الأولى كانت تسعى لمَدّ نفوذِها بأدواتها الذاتية من أجل تحسين شروط مواجهتها وتعزيز أوراقها، وفي مرحلة ما بعد التوقيع ستسعى لانتزاع إقرارٍ بدورها ونفوذها من المجتمع الدولي والأميركي تحديداً، وليس بواسطة قوّتِها الذاتية. والفارق كبير جداً بين المرحلتين.
فالاتفاق النووي يشكّل تحوّلاً ليس في مسار المنطقة فحسب، بل تحوّلاً على المستوى الإيراني نفسِه، وتأثيرُه سينعكس مباشرةً على طهران قبل انعكاسه بشكل غير مباشر على خارجها. فإيران الثورة التي قامت في العام 1979 انتهَت في العام 2015 أو تنتهي رسمياً مع توقيع النووي، وتتطلّب عملياً حقبةً من الزمن قبل أن تعود تدريجياً دولة طبيعية.
وما لا يجب التقليل من أهمّيته في المقابل هو التحالف العربي-السنّي الذي أدخلَ المنطقة في توازن استراتيجي وضع حدّاً لاستخدام الساحات العربية كملعبٍ من قبَل طهران، ويكفي في هذا الصَدد مراقبة الحملة التي يشنّها محور المقاومة على السعودية للتثَبُّت من فعالية دور الرياض في الحدّ من النفوذ الإيراني، وإلّا لما استنفَر هذا المحور لشَنّ هذه الحملة الإعلامية التي تشكّل تعويضاً لعجزِه عن مواجهتها فعلياً.