إيران قلقة وليست خائفة، بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأميركية. هذا القلق يدفعها لإعادة بناء استراتيجية جديدة تجنّبها المفاجآت، وتمنع عنها التحوّلات الكبيرة. دوائر السلطة في «إيران العميقة«، تحت قيادة المرشد آية الله علي خامنئي، تعمل على حدّ وضرب أي محاولة ترمي إلى «سورنة» إيران. تعرف هذه الدوائر أنه يكفي عود ثقاب واحد، لإشعال حرائق ضخمة في الداخل لأن «الرياح الخارجية» قائمة وهي تنتظر ثغرة واحدة لتتمدّد عبرها إلى أعمق أعماق الداخل. رغم رؤية الرئيس حسن روحاني «أن التعدّدية القومية للشعب الإيراني مصدر قوّة«، فإنها أيضاً تشكل رصيداً ضخماً، للّعب على «كراسيه الموسيقية» وتحويله إلى مصدر ضعف مزلزل للكيان الإيراني.
إيران متأكدة من أن ترامب وكل المتشدّدين في إدارته، لا يمكنهم تكرار محاصرتها، كما في السابق، لأن روسيا والصين معها، وأن أوروبا «تلهث» وراء توقيع العقود معها. رغم ذلك فإن القلق يؤكد الحذر. حتى ولو كرر المسؤولون كل يوم أن إيران ليست «لقمة سائغة»، فإن ذلك لا يحول دون التيقّظ. لذلك تبدو الاستراتيجية التي تعمل على صياغتها حالياً، لتكون متأهّبة لدخول ترامب إلى البيت الأبيض، تتضمن خططاً دفاعية وهجومية في الوقت نفسه. من ذلك:
* التأكيد يومياً على ارتفاع منسوب رصيدها من أنواع مختلفة من الأسلحة المصنّعة داخل إيران، خصوصاً من الصواريخ والطائرات المسيّرة. إلى ذلك تضخيم سلاح البحرية وكأن إيران تطلّ على المحيطَين الأطلسي والهادئ في وقت واحد، علماً أنها لا تملك منفذاً بحرياً ضخماً سوى على الخليج الضيّق، والشريكة فيه مع دول عربية في طليعتها المملكة العربية السعودية. وقد ترجم العميد باقري رئيس الأركان ذلك بقوله: «لقد تنازلنا عن قوّتنا النووية ونحن نعوّضها ببناء قوّة بحرية».
* القوة البحرية، تلزمها قواعد، وإلا تبقى أسيرة لا تقدم ولا تؤخر. لذلك بدأت تتوضّح الطموحات الاستراتيجية الإيرانية. اللواء باقري أكد «أن إيران تطمح لقاعدتين في سوريا واليمن». وإذا ما أضيف إلى ذلك وجودها على بحر قزوين فإن «المثلث البحري« الاستراتيجي يكتمل من قزوين إلى سوريا فاليمن. ومن ثم يحصل التواصل عبر عُمان ومحاولة استئجار جزيرة على شاطئ البحر الأحمر لإقامة قاعدة ترفد قواعدها وموانئها في الخليج.
* تقوية تحالفها إلى درجة الشراكة مع روسيا والصين. سواء بعقود ضخمة نفطية ومن الأسلحة تصل إلى ثلاثين مليار دولار مع موسكو أو عشرة مليارات مع بكين. وتسعى إيران للحصول على قواعد وعلاقات من الشراكة إلى درجة إغراء روسيا بقاعدة «نوجه» الجوية في همدان، التي سبق وأن اختارتها موسكو في بداية تدخلها الجوّي في سوريا.
طهران تعلم أن كل هذه الخطط العسكرية الاستراتيجية لا تكفي لضمان قوتها ووجودها، خصوصاً أن الشرق الأوسط مساحة مفتوحة من الرمال المتحرّكة، وبوجود «حليف» مثل روسيا، طموحها أن يقرر ويدير لا أن يتقاسم، و»عدو» لا يؤمن جانبه مثل الولايات المتحدة الأميركية. فإن الحل هو في تحصين «خاصرتها الضعيفة» المتمدّدة على طول حدودها مع الدول العربية الخليجية أساساً. إيران تدرك أكثر فأكثر أنه لا يمكنها مهما عظمت قوّتها، إلغاء أحد في المنطقة. لذلك، وفي سياق استراتيجيتها التي نصبتها، تمد يدها إلى المملكة العربية السعودية «عمود الخيمة» الخليجية. وإذا كانت العروض الإيرانية قد تدرجت من محاضرة لأستاذ في جامعة بهئشتي فإنها وصلت مع علي لاريجاني رئيس مجلس الشورى إلى كلام جدّي أمام «الملتقى الأمني« المنعقد حالياً في طهران على قاعدة: «إلغاء المنافسات الاستنزافية… للتحرك نحو استقرار المنطقة». أما الخطوة العملية التي يعرضها لاريجاني لحل الأزمات المهمّة في سوريا واليمن والبحرين فإنها تكون في حل سياسي مثل حل المشكلة في لبنان». وختام هذا الكلام الذي يُشكل نوعاً من «العرض المتكامل المرتكز على أن إيران ليست عدوّة للمملكة العربية السعودية.. وأن إيران تعتزم التعاون مع جميع دول المنطقة المسلمة».
ما يعزّز هذا التوجُّه «التصالحي» لإيران، ليس «قلقها» فقط من الرئيس ترامب وحده، وإنما من التكامل الحاصل بين «عدائية« ترامب لها والتنافس الذي قد يصل إلى حدود التنازع مع موسكو في مرحلة متقدّمة، من جهة، ومن جهة أخرى من إسرائيل التي استقوت بعد انتخاب ترامب أساساً وإمساكها بالكثير من «خيوط» الحرب في سوريا.
طهران تعرف ميدانياً أنه لا تسقط قنبلة في سوريا من دون أن تعرف إسرائيل بها وبهدفها، وأن تنسيقها مع موسكو ومع واشنطن، أكثر قوّة وعمقاً من أي فترة ممكنة. ولذلك فإن التنسيق الإيراني – الروسي في سوريا يتم تحت إشراف تل أبيب. وفي اللحظة التي تشعر فيها إسرائيل أنه يتم تجاوزها يكون ردّها العدائي مباشراً وسريعاً. وما القصف الأخير على مطار المزّة بالصواريخ بدلاً من الطائرات إلاّ لإفهام موسكو أن لديها الإمكانات العسكرية لتجاوز أي محاولة روسية للّعب على حبال العلاقات معها من أجل إبلاغ السوريين، وعبرهم الإيرانيين مسبقاً بأي هجوم جوّي.
إيران عادت وصعّدت في خطابها التقليدي ضدّ إسرائيل، لتذكّرها بأن «سكونها وسكوتها» عن تحرّكها موقت يتعلق بتطورات المعارك في سوريا وليس دائماً، وبالتالي إشعار موسكو بأنه لا يمكنها تقرير الحرب والسلام في منطقة الشرق الأوسط من دون أخذ موافقتها.
في مثل حالة الشرق الأوسط والتحرك الإيراني لا تكفي الخطط حتى ولو كانت صلبة. الحل في التنفيذ الجيد و»التواضع» في المطالب على قاعدة أن الآخرين يملكون الكثير من «الأوراق» القوية.