التصريح الذي أدلى به مستشار الرئيس الإيراني علي يونسي عن أن بلاده عادت «امبراطورية» عاصمتها بغداد، يكشف، إضافة إلى كونه يندرج في إطار الصفاقة والتبجح السياسيين، عن هوس إيراني عميق ببلاد الرافدين وعاصمة الرشيد على نحو خاص، ويوضح معنى التغطية الإعلامية الإيرانية غير المعتادة لمشاركة «الحرس الثوري» وقائد «فيلق القدس» قاسم سليماني في معركة تكريت الحالية ضد «داعش» والسكان السنّة على السواء.
لكن اللافت أن يونسي الذي كان يتحدث في ندوة عن «الهوية الإيرانية» في طهران، لم يشر من قريب أو بعيد إلى سورية التي تدير طهران فيها عملية عسكرية واسعة ومكلفة مالياً للحفاظ على نظام بشار الأسد، وضمان أمن حليفها «حزب الله» اللبناني. فهل يعني هذا التصريح مفاضلة غير مباشرة بين العراق وسورية تشي باختيار الأول واعتباره عنصراً رئيساً في استراتيجية طهران الإقليمية، أو رسالة ما إلى الأميركيين في وقت توضع اللمسات الأخيرة على صفقة متكاملة معهم؟
الحقيقة أن يونسي لا يخبر جديداً عن أولوية العراق بالنسبة إلى إيران، إذ لقي هذا البلد على مر التاريخ اهتمام الفرس منذ ما قبل الإسلام، لكنه يؤكد أن بغداد كامنة في الخلفية العميقة لأي تفكير أو تخطيط استراتيجي لإيران الحالية، بينما سورية لا تعدو كونها «معركة اضطرارية» فرضها كونها ساحة إسناد وإمداد لـ «حزب الله»، حصان طهران الرابح في شرق المتوسط.
فللعراق، على العكس من سورية، حدود مشتركة طويلة جداً مع إيران، وفيه غالبية شيعية متحالفة مع طهران، معظم أحزابها وميليشياتها يتلقى الدعم السياسي والعسكري وأحياناً المالي منها، وأي اضطراب أمني ذي جذور طائفية أو عرقية في هذا البلد يهدد بالانتقال إلى إيران نفسها، وسبق لطهران أن خبرت كيف تؤثر الأوضاع العراقية في عرب الأحواز وسواهم من الأقلية السنية فيها.
ومع أن قوات وخبراء عسكريين إيرانيين ينتشرون بكثرة في المناطق السورية التي لا تزال خاضعة لحكم دمشق، إلا أن الانتشار الإيراني العسكري والأمني في العراق يفوق ذلك بأضعاف. وتقول معلومات أميركية أنه منذ اجتياح «داعش» المفاجئ لمناطق واسعة في العراق، بدأت إيران بإرسال مساعدات عسكرية إلى الجيش العراقي ثم إلى الميليشيات الشيعية، وصلت إلى نحو 140 طناً يومياً من المعدات التي تشمل راجمات صواريخ وقذائف للمدفعية والدبابات، وطائرات مسيّرة من بعد من طراز «أبابيل» يمتلك «حزب الله» مثيلها.
وفي مقابل إبلاغ أميركا القيادة الإيرانية بنيّتها في إعادة إرسال خبراء عسكريين لمساعدة الجيش العراقي في مواجهة «داعش»، تفيد معلومات أميركية أن طهران أبلغت واشنطن مسبقاً بإرسال سليماني وقواته إلى العراق، ما يعني أن التنسيق قائم بين الطرفين ويشمل توزيع المهمات بين برية وجوية، من دون أن يمس ذلك بالنفوذ الإيراني الطاغي.
ومن الواضح أن إيران إذ تبالغ في تصوير خطر «داعش» على وحدة العراق الجغرافية إنما تبرر إرسالها قوات برية، ويجاريها الأميركيون في هذه المبالغة رغبة في تسهيل الاتفاق المزمع بينهما، واعترافاً بالدور الإيراني الإقليمي.
غير أن هذا التركيز على العراق لا يعني أن طهران ستتخلى بسهولة عن سورية ونظام الأسد إذا لم تحصل على ضمانات بأن «حزب الله» لن يحاصَر بين نظام جديد في دمشق لا يغفر له قتال السوريين على أرضهم، وبين إسرائيل التي ترغب في تقليم أظافره.
تعرف طهران بالتأكيد أنها ستخسر في النهاية معركة سورية التي لن تستطيع مهما طالت وارتفعت كلفتها أن تبقي حكم الأقلية العلوية قائماً، ولهذا تستغل الوقت في مدّ «حزب الله» بأكبر قدر ممكن من السلاح، وخصوصاً الصواريخ البعيدة المدى، في حال تلكأ الأميركيون في تقديم الضمانات التي تطالبهم بها.