دخلت هذه المنطقة من العالم في إطار «قطبية إقليمية مذهبية» منذ مطلع القرن السادس عشر، مع اعتناق البلاط الصفوي في إيران رسمياً المذهب الشيعي الإثني عشري، ورفع منسوب «الهوية السنّية» للدولة العثمانية، إن يكن من خلال حربها مع بلاد فارس، أو من خلال توسعها باتجاه البلدان العربية، و«التهام السلطنة المملوكية».
من يومها، وإيران تنظر الى تميزها المذهبي في محيطها على أنّه دافع حيوي بالنسبة لها باتجاه التوسّع، وكافح جديّ لهذا التوسّع بما يرجعه عند كل موجة إلى أعقابه، وبما كان يساهم في الحد من القطبية المذهبية التصادمية بعد تعثّر محاولات التوسّع.
محاولتان قدّمتا للخروج من المعضلة. الأولى في منتصف القرن الثامن عشر، مع أفول الصفوية، وصعود نادر شاه أفشار. اعتبر نادر شاه أنه يلزم مغادرة المذهب الشيعي مجدّداً للتمكّن من التوسّع شرقاً وغرباً، ثم ابتدع نوعاً من التسوية المذهبية المحسوبة سياسياً، وروّج لها كـ«إسلام سنيّ جعفري». تمكّن من غزو الامبراطورية المغولية، المسلمة السنية، في الهند، وفتح دلهي عام 1739، وحاول التوسع في العراق، على حساب الدولة العثمانية أيضاً، إلا أنّ الوصفة الأيديولوجية التي حاول تسويقها لم تفلح كثيراً. وبعده، عادت إيران لتنكمش على ذاتها لفترة من الزمن طويلة.
المحاولة الثانية جاءت مع الثورة الإسلامية وفكر الإمام الخميني. اعتبر الخميني أن «تثوير التشيّع» كفيل بجعله أيديولوجيا لاقطة لجميع المضطهدين والثوريين ليس فقط في إيران، بل أيضاً في البلدان العربية ذات الأكثرية السنية. النتيجة: بدلاً من تقليل حدّة التصادمات القومية الإيرانية العربية والمذهبية السنية الشيعية التي كان أهل الثورة الإيرانية يعتبرون أن نظام الشاه عمل على تزكيتها طيلة عقود، فقد حدث العكس تماماً. زادت هذه التصادمات عن كل حد. وبالتأكيد، لم يكن ليحدث هذا لولا سياسات استعجلت السلبية غربياً وعربياً تجاه الجمهورية الإسلامية، إلا أنّ المؤدى العام أن هذه الجمهورية هي التي كانت تطرح «تصدير الثورة» ولم يكن أحد في الجهة المقابلة يطرح لا تصدير «العروبة» ولا تصدير «التسنّن» اليها.
مع ذلك، وحتى التدخل الانغلو- أميركي في العراق وإسقاط نظام صدام، لم يكن ثمة تجربة «تصديرية» ناجحة للأيديولوجيا الحاكمة في إيران، ونموذج «الحرس الثوري» الكابس على الإيرانيين، غير نموذج «حزب الله» في لبنان، هذا النموذج الذي عرّف عن نفسه مطولاً بأنه «الثورة الإسلامية في لبنان» قبل أن يكتفي بـ«المقاومة الإسلامية في لبنان»، ثم تعود هذه المقاومة «اللبنانية» فتتوسع الى بلغاريا ومصر وسوريا والعراق واليمن وتحشر أنفها في الشؤون الداخلية لعدد من الدول العربية.
سيمرّ وقت، ومعه مآسٍ كثيرة جديدة، قبل أن تقتنع إيران مرة أخرى بأنّ دافعها الى التوسع في النطاق العربي، يكبحها في الوقت نفسه، وأنّ تجربة «الإسلام السني الجعفري» مع نادر شاه أفشار، مثلها مثل تجربة «التشيّع الثوريّ الأممي» مع الإمامين الخميني وخامنئي تقرّب إيران من المجد الإمبراطوريّ الى حد كبير، لكنها تعود فتبعد هذا المجد عنها، كونها تصطدم بواقع مديد، «سنيّ أكثري» على صعيد العالم العربي، كما على صعيد العالم الإسلامي.
كل ما تقدّم لا منفذ اليه بطبيعة الحال الى المداولات السياسية المحلية أو طاولة الحوار، ولا إلى أي نوع من «الحوار المتخيل» مع «حزب الله». بل إنه إذا ما سمعنا كلمة السيد حسن نصرالله اليوم سيبدو مثل هذا الكلام، الداعي للانطلاق من منظار «الأمد التاريخي الطويل» لفهم المعضلة الإيرانية، والطابع «المستحيل» للتوسّع في النطاق العربي، سواء بالمنظار القومي أو بالمنظار المذهبي، كلاماً يذهب هباء.
فالسيد لن يكتفي بحالة متقدمة من إلغاء «الحيز اللبناني» وتهميشه لصالح الملاحم الإقليمية، لأنه ينساب أكثر فأكثر وراء «استراتيجية وصل» بين «جزيرة كبيرة» تدعى إيران، و«جزيرة صغيرة» تدعى المناطق الشيعية من لبنان. الوصل هنا بمعناه الجغرافي الحرفيّ. بكل ما يعنيه من «حرب استنزاف لأجيال» في العراق وسوريا وحيثما أمكن للحريق أن يجد له فتيلاً.
رئيس أو لا رئيس؟ ضرب في الرّمل طالما ظلت استراتيجية «تحييد لبنان» لم يُعاد تأهيلها للإجابة تحديداً على هذا الخطر، خطر استراتيجية الوصل البرّي بين المناطق الخاضعة مباشرة للنفوذ الإيراني في العراق وبين المناطق التي يُراد التوسّع اليها، في العراق وفي سوريا، بداعي مكافحة «الإرهاب التكفيري». في مكان ما، صحيح، يستشعر الحزب أن أي رئيس كان هو «وجع رأس» إضافي، في زمن «استراتيجية الوصل» هذه. وفي مكان آخر، هامشية «الحيز اللبناني» لديه تعطي انطباعاً بـ«لا مبالاة» له حيال موضوع الرئاسة، كما لو كانت تتعلق ببلد أجنبي، أو كانت مسألة ذات طابع «تراثي» مسيحي صرف.