أهمّ ما تضمّنه خطاب الرئيس سعد الحريري أول من أمس في ذكرى 14 شباط أنه أثبت بالوقائع كيف سعى على مدى سنة وثمانية أشهر الى طرق كل الأبواب من أجل انتخاب رئيس للجمهورية، تماماً كما أثبت بالوقائع كيف أن «حزب الله» أوصد كل الأبواب في وجه السعي الى انتخاب رئيس، حتى بلغ به الأمر حدود رفض تأمين النصاب لأي من مرشَّحَيْ 8 آذار.
هذا في الوقائع، أما في الدلالات فإن تحويل «حزب الله» الاستحقاق الرئاسي في لبنان الى رهينة «من أجل التفاوض» في بازار المساومات الإقليمية والدولية، إنما يعني أول ما يعني أنه يحقّ لإيران ما لا يحقّ لغيرها، تماماً كحقبة الوصاية السورية على لبنان حيث كان «يحقّ» لها ترك حدود الجولان مستقرّة وآمنة لا تؤثّر على اقتصاد سوريا وسياحتها، فيما تحوّل جنوب لبنان الى ساحة مفتوحة للرسائل السورية في أكثر من اتجاه.
فصحيح أن إيران، كما تباهى الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله في آخر إطلالة له، شهدت منذ قيام الجمهورية الإسلامية العام 1979 خمسة وثلاثين انتخاباً، لكن الصحيح، والمبكي أيضاً، أن لبنان وبسبب موقف السيد أو إيران لا فرق شهد خمساً وثلاثين جلسة انتخابية، منذ سنة وتسعة أشهر، ولم يُنتخب رئيس للجمهورية.
هذا هو معنى «الديمقراطية الإيرانية» كما سمّاها رئيس «اللقاء الديمقراطي» النائب وليد جنبلاط، وهذا معنى أنه يحقّ لإيران ما لا يحقّ لغيرها، رغم أن العكس يفترض أن يكون صحيحاً، باعتبار أن لبنان يحكمه نظام ديمقراطي يفترض تداول السلطة وإجراء انتخابات بصورة دورية. فيما يُجمع العالم على اعتبار النظام الإيراني نظاماً توتاليتارياً يمارس ديمقراطية صورية لا تعدو كونها «ديكوراً» لقرار معلّب ومتّخذ سلفاً.
أما المفارقة التي تثبت هذه المقاربة قولاً وفعلاً فهي إمعان «حزب الله» في خوض حرب شعواء ضد الشعب السوري من أجل حماية «رئيس الجمهورية» السورية، مقابل إمعانه في حرمان الشعب اللبناني من انتخاب رئيس في لبنان.
وفي ذلك إشارة واضحة لمحاولة استنساخ النظام الإيراني في لبنان، تماماً كالمحاولات السابقة لاستنساخ النظام السوري في لبنان (في عهد الرئيس إميل لحود)، من خلال السعي المعلن والصريح لـ»تعيين» رئيس للجمهورية اللبنانية بدلاً من انتخابه، عن طريق رفض تأمين النصاب لجلسة الانتخاب إلا في حال ضمان وصول المرشح الذي يريده الحزب، على طريقة «مجلس صيانة الدستور» الإيراني الذي يوافق أو يعترض على أسماء المرشحين في إيران.
في كل الأحوال فإن خطاب الرئيس الحريري أول من أمس أكّد المؤكد، لكن بالوقائع المقرونة بسرد لمسلسل الأحداث بشأن الاستحقاق، ووضع الكرة في مكانها الصحيح، أي في ملعب «حزب الله»، قاطعاً الطريق على محاولات البعض رمي الكرة في ملعبه، من خلال دعوته الى الموافقة على مرشّح محدّد لتأمين النصاب، عن طريق دعوة الكتل النيابية من جديد للحضور الى مجلس النواب وانتخاب من تريد.
وهذا حرص على ديمقراطية الانتخابات الرئاسية مقابل الإمعان في السعي الى تعليبها أو حسمها قبل الوصول الى صندوق الاقتراع، كما ينمّ عن محاولة جديدة لفتح باب الاستحقاق مقابل السعي الحثيث لإقفاله. ومعنى ذلك أن استمرار «حزب الله» في منع الاستحقاق الرئاسي من الوصول الى خواتيمه إنما يدلّ على أن الحزب لا يريد انتخاب رئيس للبنان حتى إشعار آخر، وأن المسألة بالنسبة إليه ليست اعتراضاً على هذه المرشّح أو ذاك، وكلاهما حليفان له، وإنما اعتراضاً على إتمام الاستحقاق من أساسه حتى لو كان الأوفر حظاً حليفه رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون.
ألم تكن دعوة السيد نصرالله للرئيس الحريري الى «مقاطعة» الانتخابات، في حال كان عون الأوفر حظاً، إشارة واضحة في هذا الاتجاه؟