القوى الرئيسية المسيطرة والفاعلة والقادرة في إيران هي ثلاث؛ القضاء٬ والاستخبارات٬ والحرس الثوري. وأول رد فعل على النتائج الأولية للانتخابات الإيرانية البرلمان ومجلس الخبراء) صدر عن رئيس السلطة القضائية صادق لاريجاني الذي اتهم الإصلاحيين بالتنسيق مع الغرب لمنع فوز المحافظين في طهران.
في الواقع٬ توصل الغرب إلى الاتفاق النووي مع إيران بهدف تقوية وضع الرئيس حسن روحاني في الداخل٬ وقد يكون الغرب يخطط لأبعد من ذلك عبر روحاني وفريقه٬ إذ تعب العالم من إيران الثورة ويريد أن يتعرف على إيران الدولة. وكان المتشددون يتدخلون في سياسة الدولة بسبب ارتياحهم لأسعار النفط المرتفعة٬ وكانوا قادرين على إطلاق الشعارات واتخاذ المواقف المتطرفة٬ فهم كانوا يعتمدون على عائدات النفط العالية بالعملة الصعبة٬ الآن جفت هذه العائدات وتعتقد مجموعة روحاني أن على هؤلاء الانسحاب لإفساح المجال أمام إعادة بناء الاقتصاد.
مهمة مجلس الخبراء اختيار المرشد الأعلى٬ فإذا ظل المرشد الحالي آية الله علي خامنئي حّيا لثماني سنوات مدة الدورة٬ فلن تكون للمجلس أي أهمية٬ أما البرلمان فإنه يستطيع أن يصادق على أو يسقط أجندة روحاني الاقتصادية.
عام 2013 انتخب الإيرانيون روحاني رئيًسا من أجل تحسين الاقتصاد والوضع المعيشي. لا يفكرون بسياسة إيران العدائية في المنطقة. وفي انتخابات الأسبوع الماضي رأى الإصلاحيون والمعتدلون أن الإقبال دليل على رغبة في التغيير٬ بينما فسره المتشددون بأنه دعم شعبي للنظام السياسي وبالتالي للوضع القائم.
كثيرون في مقاطعة كردستان غرب إيران رفضوا المشاركة٬ فالانتخابات مهمة للنظام لأنه يريد أن يظهر للعالم أنه لا يزال يتمتع بالشعبية والشرعية. أما في خوزستان عربستان المقاطعة الجنوبية فإن أبناءها يعانون من وفي كل شيء. وأخيًرا اعتبرت الأهواز الأكثر تلوًثا في العالم٬ مع العلم أنها المنطقة التي تدر أكبر العائدات إلى الخزينة الإيرانية بسبب وجود النفط فيها. وتساءل كثيرون كيف أن المرشد دعا كل إيراني إلى المشاركة كناخب وليس كمرشح.
مجلس تشخيص مصلحة النظام يختار المرشحين ومن وافق عليهم يشتركون في أمر واحد وهو أن أًيا منهم لم ينتقد المرشد الأعلى. ربما عبروا عن سياسات تقدمية٬ المهم أنهم لم يتحدوا الوضع القائم.
يقول لي مصدر إيراني: صار مجلس تشخيص النظام مسيًسا٬ والضغوط التي مورست على المعتدلين والإصلاحيين صارت الآن موجهة كلها نحو هاشمي رفسنجاني٬ فالصراع بينه وبين القضاء مستمر٬ وابنه معتقل ولا يستطيع إطلاقه.
بالنسبة إلى المرشد٬ فإنه يفّضل برلماًنا متشدًدا يواجه الغرب وبالأخص أميركا ويريد أن تستمر إيران في طموحها الإقليمي في سوريا والعراق واليمن وعبر «حزب الله» ذراعها في لبنان٬ لكن هذا لا يتطابق مع الرغبة الشعبية في جني ثمار رفع العقوبات اقتصادًيا.
إن مستقبل روحاني واحتمال إعادة انتخابه رئيًسا العام المقبل متوقفان على الاقتصاد.
بدأ تطبيق الاتفاق النووي٬ُرفعت العقوبات٬ وتعلق الإيرانيون بالأمل٬ وأطلق روحاني على لائحته الانتخابية اسم «لائحة الأمل»٬ ثم تدحرجت أسعار النفط٬ ولم تصل «الغنائم» الموعودة. وهذا كله سيؤذي روحاني لأنه خلال زمن محمود أحمدي نجاد قبل 3 سنوات كان معدل سعر النفط 75 دولاًرا لكن منذ مجيء روحاني انهارت الأسعار وإيران تبيع برميلها ما بين 20 إلى 25 دولاًرا. ارتدى روحاني وجه الشجاعة وقال إنه يستطيع تجاوز الأمر٬ لكن كل واحد يعرف أنه من الصعوبة إدارة الاقتصاد بنفط هذا سعره٬ خاصة أن النفط في إيران أهم للاقتصاد من التجارة الخارجية. هناك بالطبع فوائد من رفع العقوبات٬ فبعض أموال النفط المجمدة في الخارج وجدت طريقها إلى طهران٬ وهناك 20 مليار دولار من التوفير في المعاملات الخارجية٬ والكثير من رجال الأعمال الغربيين وصلوا إلى إيران بهدف استثمار أموالهم٬ لكن هذا كله لن يحسن الاقتصاد.
لقد تركزت سياسة روحاني الخاصة على محاربة التضخم ونجح٬ لكن تكون هناك سياسة نقدية مشددة يليها دائًما ركود٬ لذلك لم يشهد الاقتصاد أي نمو٬ وهذا على عكس ما وعد به روحاني. أما العقوبات فقد منعت إيران من تحقيق مطالب الشعب إزاء الوظائف والنمو٬ وهذا دّمر الاقتصاد أكثر لأن الإيرانيين التفوا حول العقوبات ولكن بثمن مرتفع.
في دراسةُنشرت أخيًرا تبين أن المقاطعة المصرفية والنفطية كلفت إيران 150 مليار دولار٬ وبالمقارنة فإن إيران ستخسر 185 مليار دولار بسبب هبوط أسعار النفط.
وتعاني إيران من هجرة الأدمغة٬ إذ يغادر كل سنة 150 ألف طالب٬ قسم يعود وقسم لا يعود (هناك 12 مليون إيراني في الخارج) ونسبة البطالة مرتفعة كثيًرا.
أيضا على روحاني أن يقرأ ما يجول في عقول الناخبين لجهة الفساد المستشري. صار موضوع الفساد مفتوًحا٬ الصحف تكتب عنه والمبالغ المنهوبة ذات أرقام خيالية٬ وحتى قبل فرض العقوبات قال خبراء اقتصاديون إن سوء الإدارة وانتشار الفساد سيدمران الاقتصاد الإيراني.
يعرف الإيرانيون أن الفساد هو آفة إيران وعندما يتكلمون عن المقاطعة يشيرون إلى مدى تأثيرها على الناتج المحلي الإجمالي كما على النمو٬ إذ أضافت المقاطعة نوًعا جديًدا من الفساد٬ حيث برزت مجموعة «سماسرة المقاطعة»٬ لأن إيران لم تستطع التعامل مع العالم مباشرة فاحتاجت إلى وسطاء ولهذا نما الفساد والفقر مًعا في وقت واحد.
الجمهورية الإسلامية الإيرانية لمُتّعرف عن نفسها إطلاًقا انطلاًقا من القواعد الاقتصادية٬ فالقواعد الاجتماعية هي الأهم عند الثورة. وبسبب الخوف من الضغوط المتزايدة على الإيرانيين٬ صارت الحكومة تتحول إلى «الحوار القومي» كغطاء للتوجه المذهبي. ولم يعد يتم تصوير شخصيات معروفة مثل محمد جواد ظريف وزير الخارجية٬ والجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس»٬ كمدافعين عن الإسلام الشيعي٬ بل عن المصالح الإيرانية. المتشددون أرادوا استغلال ذلك قبل انتخاب روحاني. بدأ أحمدي نجاد يطرح أجندته القومية٬ شعر النظام بالصراع السني الشيعي المقبل على المنطقة فأراد تغليف التوجه الشيعي باستعمال مشاعر معادية للعرب عبر شعارات قومية٬ ولجأ حتى إلى «مغنين» لتقوية المشاعر القومية في عدائه للمملكة العربية السعودية.
يريد النظام الإيراني أنُيظهر للخارج أنه براغماتي لا متشدد ولا تكفيري. فبعد عام 1989 ابتعد في الظاهر عن الشعارات الدينية٬ وصّور أن من تدير شؤونه شخصيات عسكرية وليس شخصيات دينية٬ وهذا مهم جًدا له٬ فالشخصيات العسكرية تفكر بتحقيق طموحات إيران المذهبية والإقليمية٬ وجاء إبعاد حسن الخميني (حفيد المؤسس) ليقول إن القليل بقي من تركة الخميني ومن شعاره: تصدير الثورة الإيرانية.
أدركت إيران أن الكشف علًنا عن تحريك أو تمديد الإسلام الشيعيُيظهرها بمظهر المعتدي٬ لذلك حّركت في الداخل الحس القومي من أجل تحقيق الطموحات ذاتها في الخارج٬ الذي له «فيلق القدس» و«حزب الله».
الانتخابات الأخيرة أحدثت ضجة إعلامية داخل إيران وخارجها لكن يبقى أن المفتاح بيد المرشد. المتشددون الذين فقدوا الرئاسة لصالح روحاني يصرون على أن يقوم البرلمان الجديد بإيقاف أجندته الاقتصادية. هم لا يزالون كما ذكرنا٬ يتحكمون بمواقع القوة في إيران٬ وقد يذهبون إلى الأبعد لمنع قيام برلمان معتدل. البرلمان صوت الشعب٬ لكن صوت المرشد أعلى من صوت الشعب ومن صوت روحاني.
أحد الإيرانيين المعتدلين قال لي: أمام روحاني سنتان فقط ليتحول من «مصلح» إلى «إصلاحي» ويلحق الانفتاح السياسي بالاقتصاد٬ فيرتاح الشعب الإيراني وترتاح المنطقة.