تفتح أقلام الاقتراع في إيران أبوابها صباح الغد لانتخاب برلمان ومجلس خبراء جديدين، بعد حملة انتخابية شرسة يحاول الأطراف فيها رسم ملامح المرحلة المقبلة، والتمهيد لانتخابات رئاسية، تُطرح للمرة الأولى تساؤلات عمّا إذا كانت ستكون لمصلحة الرئيس الحالي حسن روحاني، الذي يعمل لأن يخطّ لنفسه تياراً سياسياً خاصاً به، مستفيداً من الانتصار النووي الذي حققه قبل مدّة وجيزة
تشتد حماوة الانتخابات التشريعية في إيران، قبل ساعات فقط على فتح مراكز الاقتراع صباح يوم غد الجمعة. نشاطات ميدانية ومعارك في الفضاء الإعلامي إنما تعكس مستوى من الحيوية السياسية لطالما ميّز الجمهورية الإسلامية، التي شهدت ما معدله عملية اقتراعية كل عام منذ قيام ثورتها في عام 1979.
اتهامات واتهامات متبادلة، مضبوطة الإيقاع، تحت سقف المرشد علي خامنئي، الذي طالما دعا جميع الإيرانيين، موالين ومعارضة، إلى التصويت بكثافة بغض النظر عن النتائج. في النهاية، ترى القيادة الإيرانية مستوى نجاحها الانتخابي في نسبة المقترعين التي تعكس، من وجهة نظرها، شعبية النظام الذي تجري العملية الانتخابية تحت سقفه، بمعزل عن الاصطفاف السياسي الداخلي.
صحيح أن الانتخابات البرلمانية في إيران، في غير المدن الكبرى، حيث تعلن النتائج الاثنين، عادة ما تكون محلية الطابع، شخصية الخيارات، تغرق في التفاصيل الداخلية ذات البعد الخدمي (هناك في الأرياف والمدن الصغرى، حيث تعلن النتائج خلال 24 ساعة، لا مكان للانتماء السياسي، أصولياً أو إصلاحياً أو معتدلاً، في الخيارات الانتخابية، وما تفرزه عملية الاقتراع من فائزين، ما ان يدخلوا مجلس الشورى حتى يقرروا الانضمام إلى هذه الكتلة أو تلك)،
لكن اللافت في حملات هذه الأيام، حتى في العاصمة، ابتعادها عن النقاش السياسي المتعلق بالملفات الإقليمية، سواء ما يجري في العراق أو سوريا أو اليمن، بل حتى الخلاف مع السعودية. لا أصوات معترضة مثلاً على عمليات «الحرس الثوري» في هذه المناطق على سبيل المثال. يبدو، بحسب أكثر من متابع، أن هناك اقتناعاً عاماً بأن ما يجري في الإقليم إنما هو لحماية إيران، التي ظهر جلياً أنها لا تزال الجزيرة الآمنة الوحيدة في تلك المنطقة المضطربة.
غلب النقاش الاقتصادي على معظم محاور العملية، حيث يتنافس أكثر من ستة آلاف مرشح، بينهم 586 امرأة، على مقاعد مجلس الشورى الـ290، و161 مرشحاً على مقاعد مجلس الخبراء الـ88. تركز النقاش بين فريقين، الأول تابع للرئيس حسن روحاني الذي يعد بتجاوز الركود الاقتصادي خلال عام، في وقت يبدو فيه الأصوليون مقتنعين بأن خطوة كهذه تحتاج إلى عامين على أقل تقدير.
«الائتلاف الكبير للأصوليين»
وخلافاً لما كانت عليه الحال في انتخابات الرئاسة الأخيرة، يشهد المعسكر الأصولي نوعاً من الانسجام والوحدة في صفوفه. جرى العمل على ذلك لأسابيع تكللت بتشكيل لائحة موحدة باسم «الائتلاف الكبير للأصوليين» يقوده في طهران رئيس مجلس الشورى السابق غلام علي حداد عادل. اللافت هذه المرة كان انسحاب كل المرشحين الأصوليين، ممن لم يحظوا بفرصة الانضمام إلى هذا الائتلاف، من السباق الانتخابي لمصلحته.
ومن المفارقات أيضاً في تطورات الحملة، أن المرشحين الأصوليين تجاهلوا السياسية في برامجهم وسجالاتهم وركزوا فقط على الاقتصاد والسياسات الاقتصادية التي يجب اتباعها، علماً بأن بعض مرشحي هذا المعسكر، ممن وقف منذ البداية ضد المفاوضات النووية التي أيّدها الرأي العام الإيراني بشدة، يواجه نفوراً من الشارع الذي لم ينسَ لهم، على ما تبيّن، هذا الموقف.
«92: الخطوة الثانية»
أما المعسكرالإصلاحي، فيبدو واضحاً أنه يعاني من أمرين: الأول، التشرذم حيث يخوض الانتخابات بلوائح متعددة؛ صحيح أن هناك قائمة مركزية باسم «92: الخطوة الثانية» (و92 هنا هي العام الفارسي الحالي) يقودها في طهران المرشح الرئاسي السابق محمد رضا عارف الذي انسحب من السباق لمصلحة روحاني، لكن إلى جانبها هناك عدد من القوائم الإصلاحية المنافسة. أما الأمر الثاني، فعدم قدرة الإصلاحيين على ترشيح لوائح مكتملة في المدن الكبرى، ما حدا، في بعض الحالات، إلى دعوة مرشحين أصوليين ومستقلين إلى الانضمام إليها، في خطوة أثارت نقاشاً صاخباً في صفوف الإصلاحيين عكست مستوى من الخلافات في وجهات النظر في ما بينهم. ومع ذلك، يقرّ جميع الأطراف بأن لدى الإصلاحيين كتلة صلبة من الأصوات يتراوح حجمها بين 10 إلى 12 مليون صوت، أي حوالى ربع المقترعين الإيرانيين المحتملين.
من المفارقات في الحملات الانتخابية للإصلاحيين غياب الطروحات الاقتصادية عن البرامج التي تركز على الأمور السياسية الداخلية. وضع يعيده البعض إلى غياب المتخصصين في الشأن الاقتصادي لدى هذا المعسكر.
ويبدو واضحاً أن الإصلاحيين، وفي مقدمتهم رئيس مجمع تشخيص النظام الحالي علي أكبر هاشمي رفسنجاني، يضغطون على روحاني لتبنّيهم كتيار سياسي والتحالف معهم في مجلس الشورى. حجتهم لإقناع الرئيس الإيراني تقول إن الأصوليين، في حال فازوا حالياً بالغالبية في البرلمان، للمرة الثالثة على التوالي، سيحرمون روحاني من الفوز بولاية رئاسية ثانية، في سابقة ستكون الأولى من نوعها في إيران حيث نجح جميع الرؤساء في الحكم لولايتين متعاقبتين. هم عملياً يتهمونه بأنه لم يبذل ما يكفي من الجهد لضمان قبول مجلس صيانة الدستور بالعدد الأكبر من مرشحيهم، ويهدّدونه بأنه إذا لم يتعاط بشكل إيجابي ويتعاون معهم فإنهم سيتحولون إلى المعارضة في البرلمان المقبل، وينافسونه على الرئاسة في الانتخابات المقبلة.
«صوت الشعب»
من ناحيته، يبدو المعسكر الثالث، معسكر روحاني الذي يضم خليطاً من الأصوليين والإصلاحيين المعتدلين ويخوض الانتخاب تحت مسمى «صوت الشعب»، قد خسر رهانه على تحسّن اقتصادي يعقب الاتفاق النووي. وعلى ما يقول متخصصون في الشأن الانتخابي الإيراني، إن هذا المعسكر، الذي يقوده في طهران النائب المحافظ علي مطهري، يغرف من صحن الإصلاحيين، بمعنى أنه ينافس هؤلاء على القاعدة الانتخابية نفسها.
غابت الطروحات الاقتصادية من حملات الإصلاحيين الانتخابية
ولعل أبرز ما يعكس ذلك السجال القائم حالياً بين الفريقين: الإصلاحيون يدّعون أن انتصار روحاني حصل بفضل أصواتهم التي لولاها لكان خسر معركة الرئاسة. قالها «أبو الإصلاحيين»، رفسنجاني، بالفم الملآن: أصوات روحاني لم تتجاوز 5 في المئة من عدد المقترعين، وقد فاز في الانتخابات بسبب دعمي له. جملة لا يمكن فهم وقعها إلا بالإشارة إلى أن رقم 5 في المئة هو عدد الأصوات الباطلة في انتخابات عام 2013.
في المقابل، يردّ الرئيس الحالي وأنصاره بأن فوزه الانتخابي كان فوزاً لتيار ثالث من خارج الاصطفاف التقليدي بين الأصوليين والإصلاحيين، وأنه يرفض ادّعاءات الأخيرين في شأن الانتخابات السابقة.
وللإشارة فقط، فإن مفهوم التيار الثالث أول من أصّل له كان رفسنجاني الذي أسّس ما يعرف بـ»كوادر البناء»، وهو عبارة عن تيار سياسي «تكنوقراطي» معتدل من خارج اصطفاف أصولي ــ إصلاحي. لكنه في أواخر الولاية الثانية لمحمد خاتمي، التي ترشح على إثرها إلى انتخابات الرئاسة حيث هُزم على يد محمود أحمدي نجاد، فَرَد عباءته للتيار الإصلاحي الذي كرّسه زعيماً عليه في حالة ظهرت أبرز تجلياتها في انتخابات عام 2009.
وعليه، يبدو أن روحاني في مكان لا يُحسد عليه: فهو من جهة يواجه صعوبات في جذب الرأي العام بسبب عدم قدرته على إظهار حصول تحسن اقتصادي تحقيقاً لوعوده الانتخابية الرئاسة، وبالتالي لا يستطيع الربح من دون الإصلاحيين، وفي الوقت نفسه هو مصرّ على أن يظهر أنه مستقل عنهم وأنه يمثل تياراً قائماً بذاته. هو يرفض تصويره على أنه تابع لرفسنجاني. يرى أن عصر هذا الأخير قد أفل مع خسارته انتخابات الرئاسة في عام 2005.
المفارقة أنه يبدو عاجزاً عن أن يفعل ذلك مع الأصوليين، الذين يترشح لعضوية مجلس الخبراء تحت لافتتهم، «روحانيات مبارز» (جمعية رجال الدين المناضلين التقليدية التي تمثل اليمين المحافظ).
انتخابات مجلس الخبراء
لعل أبرز مصداق على الخلاف بين رفسنجاني وروحاني حقيقة أن كل منهما قد شكل لائحة انتخابية خاصة به في طهران، في انتخابات مجلس الخبراء؛ الأول همّه إسقاط رجال الدين الأصوليين، ويركز وجماعته بشكل خاص على كل من الرئيس الحالي لمجلس صيانة الدستور آية الله أحمد جنتي، والرئيس الحالي لمجلس الخبراء آية الله محمد يزدي، وعضو مجلس الخبراء آية الله محمد تقي مصباح يزدي. في المقابل، فإن روحاني لا يزال يغرّد في صفوف العلماء الأصوليين.
وعلى الرغم من رتابة الحملات الانتخابية لهذا المجلس، فإن حدثاً إعلامياً كان له وقع لا يزال صداه يتردد إلى اليوم: تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية «بي بي سي» يتوجه إلى الشعب الإيراني، مخاطباً إياه بأنه إذا كان حقاً يريد التغيير فعليه أن يصوّت لمصلحة رفسنجاني وأنصاره.
لربما كان التقرير عادياً، أو يمر مرور الكرام في أي بلد آخر. لكن في إيران الوضع مختلف. هناك، في الجمهورية الإسلامية، يوجد اقتناع عام، مستمر منذ قرون، بأن بريطانيا، التي كانت تحتل الجزء الجنوبي من هذا البلد، تسعى دائماً إلى اختراق علماء الدين، وإلى التغلغل في منازلهم وفي عقولهم، مرفقاً باقتناع آخر بأن نجاح هذه المحاولات هو وحده ما سيؤدي إلى كسر الجمهورية الإسلامية.
من هنا يمكن فهم لماذا انتفض عدد من العلماء المرشحين إلى مجلس الخبراء على هذا البيان، ولماذا تبرّأ بعض منهم من رفسنجاني، معلنين أنهم يرفضون أن يتم احتسابهم على «مجمع روحانيون مبارز» (جمعية علماء الدين المجاهدين) الذي يضم العلماء الإصلاحيين، بل هناك من ادّعى أن رفسنجاني وضع اسمه ضمن لائحته الانتخابية من دون موافقته.
جاء التقرير الإعلامي البريطاني في وقت كان فيه مرشد الثورة علي خامنئي يقود حملة، منذ التوقيع على الاتفاق النووي، يركز فيها على «مفهوم الاختراق والنفاذ» في الثقافة الإيرانية، ويحذر من تغلغل الغرببين، خصوصاً الأميركيين والبريطانيين، في الداخل الإيراني. وقد رأى أن هذا الاتفاق يفتح المجال للتواصل مع هذا الغرب، في خطوة تحمل الكثير من الفرص والكثير من التهديدات، وأهمها محاولة اختراق «صنّاع القرار وأصحاب القرار». كان حريصاً على التأكيد والتحذير من أن الغرب سيعمل على بثّ تصوّر خاطئ للوضع، بما يقود إلى تشخيص خاطئ، وبالتالي إلى استراتيجيات وسياسات وقرارات خاطئة.
خطب ازدادت كثافتها خلال الأسابيع الماضية، سعى من خلالها إلى لفت الأنظار إلى «المخاطر» التي تتهدد الثورة. مدى تأثيرها ستحدده نتائج الانتخابات التي يتوقع كثر أن ينبثق عنها برلمان تتوازن فيه الكتل، من دون أغلبية مسيطرة لأي من الأطراف المتنافسة.