يريد الرئيس ترامب انتهاجَ سياسةٍ جديدة ضدّ إيران ونقْض كل الاتفاقات التي أَبْرمَها سلَفُه. يريد كبْح رفْع العقوبات وبالتالي حرمانها من 150 مليار دولار، ويريد أن يوصِل لها رسالة مفادها انه مستعدٌّ حتى لحربٍ ضدّها إن لم ترتدع وتلتزم مجموعةً من المعايير تتعلق بتدخُّلها في العراق وسورية ولبنان وسلوكها مع بعض دول الخليج ورعايتها للإرهاب… وبالطبع، مراعاة مصلحة إسرائيل.
مستر ترامب، تريد ان تحارِب إيران، حسناً اذاً … حارِبها في إيران وليس في العراق أو سورية أو الخليج أو لبنان أو فلسطين.
لماذا؟
أهمّ شيء يجب ان يُدرِكه العالم أن أنظمةً مثل طهران – الثورة ودمشق – الأسد وبغداد – صدّام أولوياتها المقدّسة هي البقاء. تحترق الدنيا وما فيها بمَن فيها أمرٌ جلل لكنه يمكن أن يُبرَّر ما دام “القائد” موجوداً ومُصادِراً لاسم الأمة وتاريخها ويحظى برعاية “سماوية” عند الأزمات. ولنتذكّر أن أحداً لم يجتثّ الدين من الدولة ولم يقتل من العلماء السنّة والشيعة كما فعل صدّام حسين، وعند اقتراب انتهاء حكمه وضع شعار “الله أكبر” على العلم.
هذه الأنظمة باختصار، ابتدعتْ سياسةً مفادها ان التدخّل الخارجي وتجميع أوراق إقليمية يؤمّنان استقرارها الداخلي ويسمحان بمنسوبٍ عالٍ من القمع والطغيان والاستبداد مع شعوبها كون العالم يتعامل معها في ميادين الآخرين، فإذا خسرتْ فمن الربح وإن صمدتْ زادتْ أرباحها.
في الحرب العراقية – الإيرانية، ضُربتْ سفن دولٍ لا علاقة لها لا بالحرب ولا باللاعبين فيها. تمّ خطْف رهائن وطائرات ما اضطُر الإدارة الأميركية الى التفاوض بمختلف الأقنية السرّية مع طهران. حصلتْ تفجيراتٌ في الكويت ولبنان وسورية عبر مأجورين لطرفيْ الصراع.
في 1986، كاد عميل الاستخبارات السورية نزار هنداوي ان يفجّر صديقته الحامل داخل طائرةٍ متّجهة الى إسرائيل بأمرٍ مباشر من محمد الخولي مدير المخابرات الجوية في دمشق. انكشفتْ العملية وفُرضت عقوبات على سورية وقَطعتْ بريطانيا علاقاتها الديبلوماسية معها. تَحرّك “الأشاوس” في لبنان تحت مسمى “الجهاد الإسلامي” (لاحِظوا أصل التسمية) وخَطَفوا رهائن أجانب، لتبدأ الاستخبارات الدولية بالعمل عبر الأقنية الخلفية، حتى وصلنا الى مرحلةٍ نرى فيها لبنان غير المعاقَب يَسقط دولياً ويوضع على اللائحة السوداء، وسورية المعاقَبة دولياً تَخرج من اللائحة السوداء من خلال دورها “الإنساني” في إطلاق رهائن اختفوا في بيروت… وظَهَروا في دمشق.
وعند بدء الثورة السورية، توعّد المفتي حسون أوروبا بآلاف الانتحاريين … وسواء كان يَقصد “داعش” و”القاعدة” أم لا، فإن هذا ما حصل عملياً، ما اضطُرّ العالم الى غضّ النظر في محطاتٍ كثيرة عن جرائم النظام باعتبار ان محاربة الإرهاب أولوية.
لا نريد أيّ حربٍ جديدة في منطقةٍ ذبحتْها الحروب من الوريد الى الوريد. ولكن إن قررتْ إدارة ترامب تصعيد الموقف من إيران، فلتفعل ذلك مع إيران وليس بتخريبِ لبنان أو هدْم غزة مجدداً، أو تدمير ما بقي من قرى ومدن في سورية، او تسليم العراق للميليشيات والفوضى، أو تسعير الأزمة اليمنية أو تفخيخ البحرين. ففي كل منطقةٍ من هذه المناطق هناك (بنسبة أو بأخرى) مَن سيلعب دور الأداة لمصلحة طهران حيث صار الانتماء عابراً للحدود وفوق المصالح الوطنية للدول. ولذلك سترتفع قبضات السنّي في “الجهاد” في غزة بالعلو نفسه لقبضة الشيعي في “حزب الله”، وكذلك الأمر بالنسبة للموالين لإيران في سورية والعراق.
عندما قال علي لاريجاني قبل سنوات إن نفوذ إيران يمتدّ من حدود الصين الى شاطئ غزة فإنه كان يُهدِّد لا يُشخِّص. قد يتمّ خطْف أجانب في لبنان وسورية والعراق وباكستان وأفغانستان وغيرها وتلعب طهران دوراً “إنسانياً” لإطلاقهم، وربما تهتزّ الحدود مع إسرائيل من لبنان وغزة وتلعب طهران دوراً في التهدئة. ربما تُطلَق يد “القاعدة” في التفجير بأمرٍ من “أميرٍ” مقيم في طهران، وقد يَنسحب الجيش العراقي فجأةً كما حصل أيام المالكي ويعود “داعش” الى ضواحي بغداد باسمٍ او بآخر. ربما تتعرّض مصالح أجنبية للخطر في صنعاء ويُضطر الأوروبيون الى الحوار مع طهران لمنْع تكرار ما جرى، وقد تَحصل عملياتٌ في كل دول العالم، لكن الثمن سَيَدْفَعُه لبنانيون وسوريون وعراقيون وفلسطينيون وخليجيون ويمنيون. ستتدمّر دولٌ وتتعب أخرى وتَستدرج المنطقة كل أنواع التدخلات. وعلّمتنا التجارب أننا في حساباتِ الأميركيين أقلّ أهمية أحياناً من دبب الباندا، وأن الموت ليس مجانياً عند أنظمةِ الممانعة فحسب، وأن المصلحة تقود التحوّلات في البيت الأبيض.
لا نريد الحرب ولا نتمنّاها، والإيرانيون كشعبٍ يستحقّ الأفضل داخلياً وخارجياً، انما اذا قرّرتم التصعيد يا مستر ترامب، فلا تستنسخوا المشروع الإيراني وتحاربوا بنا ومن خلالنا … نشتاق الى الخروج من دائرة الوقود والأوراق والساحات الى دائرة البشر.