تتعاطى ايران بطريقة قديمة، لا تعرف غيرها، مع تحديات من نوع جديد لم تعتد عليها. لا تبدو قادرة على الخروج من نمط معيّن يتحكّم بتصرفاتها او ردود افعالها. هذا عائد الى انّها أسيرة فكر معيّن يقوم على احتقار العرب عموما وعلى اعتبارهم يخشون المواجهة وذلك في ضوء تمكّنها من تحويل شبه الهزيمة التي لحقت بها في العام 1988 الى انتصار على العراق والعراقيين. ترفض حتّى ان تتعلّم من التجارب التي ولدت من معارك حرب السنوات الثماني مع العراق. لا تريد ان ترى من تلك الحرب سوى الجانب الذي يناسبها والذي يخدم طموحات نظامها ومشروعها التوسّعي.
خاضت ايران بين 1980 و1988 حرباً طويلة مع العراق انتهت باضطرار مؤسس «الجمهورية الإسلامية» آية الله الخميني الى تجرّع «كأس السمّ». يمكن خوض نقاش طويل في شأن من تسبب في تلك الحرب التي كانت كارثة على العراق وإيران ودول المنطقة. لكنّ ما لم يمكن تجاهله ان العراق قرّر بقيادة صدّام حسين خوض المعركة الى النهاية متجاهلا ان ايران الجديدة، ايران ما بعد سقوط الشاه، كانت تستهدف استفزازه وجرّه الى اتّخاذ مثل هذا القرار، قرار الحرب، البعيد عن المنطق.
استطاعت ايران الاستفادة من الحرب على صعد عدّة كان في مقدّمها إبعاد الجيش عن المدن وإرساله الى الجبهات. ترافق ذلك مع تشكيل «الحرس الثوري» الذي اصبح العمود الفقري للنظام والذي صار اقوى من الجيش واكثر تأثيرا منه في الحياة العامة. الاهمّ من ذلك كلّه، ان الحرب لعبت دورها في احياء المشاعر الوطنية الايرانية، أي الروح الفارسية التي كان الخميني في مرحلة معيّنة في اشدّ الحاجة اليها بغية فرض النظام الذي كان يريد فرضه على الايرانيين.
استطاعت ايران منذ انتهاء الحرب لغير مصلحتها تحويل نفسها الى قوّة إقليمية يحسب لها حساب، خصوصا في ضوء سلسلة الأخطاء التي ارتكبها صدّام حسين ثمّ المواقف التي اتخذتها الإدارات الاميركية المتلاحقة. اخذت الدول العربية، خصوصا دول الخليج علما بأنّ ايران دولة شرسة باتت تمتلك أدوات واذرع طويلة فعّالة بعدما نجحت الى حد كبير في تحويل «حزب الله» الى حزب قادر على لعب دور إقليمي بما يتجاوز حدود لبنان، أي وصولا الى سوريا والعراق واليمن والبحرين وحتّى المملكة العربية السعودية والكويت، فضلا عن مصر الأردن والأراضي الفلسطينية، خصوصا في قطاع غزّة…
ما تغيّر في السنوات الأخيرة امران لم تستطع ايران استيعابهما. الامر الاوّل وجود مجموعة عربية قادرة على أخذ المبادرة. ظهر ذلك في مصر عندما بادرت هذه المجموعة العربية بقيادة المملكة العربية السعودية الى دعم ثورة الشعب المصري التي اسقطت نظام الاخوان المسلمين في حزيران – يونيو 2013. كان سقوط نظام الاخوان، حيث كان محمّد مرسي رئيسا للجمهورية وواجهة للتنظيم، ضربة قويّة لإيران التي راهنت طويلا على اختراق في العمق للبلد العربي الاهمّ على مستويات مختلفة. لا يمكن تجاهل ان ثلاث دول عربية سارعت الى تقديم مساعدات كبيرة لمصر لحظة سقوط نظام الاخوان. قدمت السعودية خمسة مليارات دولار والكويت أربعة مليارات دولار ودولة الامارات العربية المتحدة ثلاثة مليارات دولار. كان هناك أيضا دعم معنوي وسياسي للثورة الشعبية على الاخوان من جانب دول أخرى عانت طويلا من ايران مثل الأردن والبحرين.
كانت الضربة الاهمّ لإيران في اليمن حيث استطاع الحوثيون (انصار الله) من السيطرة على صنعاء في الواحد والعشرين من أيلول – سبتمبر 2014. ما كان لافتاً ان سيطرة الحوثيين على صنعاء شكلت نقطة انطلاق لتمددهم في اتجاهات مختلفة وصولا الى عدن والمخا، الميناء الذي يمكن السيطرة منه على باب المندب وهو مضيق يتحكّم بالملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس. لم تتوقع ايران قيام تحالف عربي و»عاصفة الحزم» ابتداء من آذار – مارس 2015، بما ادّى الى تقليص حجم وجودها في اليمن في انتظار يوم تتغيّر فيه الصورة كلّيا ويستعيد اليمنيون عاصمتهم وكل متر مربّع في بلدهم.
كانت «عاصفة الحزم» حربا دفاعية بكلّ معنى الكلمة بعدما تبيّن انّ المملكة العربية السعودية وحلفاءها في الخليج العربي على علم بالهدف الذي تبغي ايران تحقيقه من خلال الحوثيين الذين ليسوا اكثر من أداة لها وإحدى ميليشياتها المذهبية المنتشرة في المنطقة.
ليست القمتان العربية والإسلامية اللتان دعا اليهما الملك سلمان بن عبدالعزيز في مدينة مكّة سوى استمرار للحرب الدفاعية العربية في وجه التمدد الايراني. ما لم تأخذه ايران في الحسبان انّ العرب لم يعودوا خائفين منها وليسوا على استعداد للسكوت عندما يتعلّق الامر بالدفاع عن امنهم ومصالحهم. هذا هو الجديد الذي ترفض ايران التعاطي معه لا اكثر. تلجأ الى لغة قديمة من نوع «التعاون» مع دول الخليج العربي للمحافظة على الامن فيه او الاستعداد لتوقيع «معاهدة عدم اعتداء» مع هذه الدولة العربية او تلك. هذا كلام لم يعد ينطلي على احد ما دامت لا ترجمة عملية له على ارض الواقع.
امّا الامر الثاني الذي لم تستطع ايران استيعابه فهو وجود إدارة أميركية مختلفة فتحت كل دفاتر الماضي والحاضر مع «الجمهورية الإسلامية» بدءا باحتجاز ديبلوماسيي السفارة الاميركية في طهران 444 يوما ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر 1979 وصولا الى الاعتداء على سفن تجارية وناقلات نفط قبالة ميناء الفجيرة، قبل ايّام، مرورا بتفجير السفارة الاميركية وقاعدة المارينز في بيروت في العام 1983. تبيّن من تصرفات هذه الإدارة انّها لن تتراجع امام الاستفزازات الايرانية، بل ستسمي الأشياء بأسمائها، على غرار ما فعل مستشار الامن القومي جون بولتون في اثناء وجوده في أبو ظبي حين حمّل «الجمهورية الإسلامية» مسؤولية الهجوم على السفن قبالة الفجيرة.
تعتقد ايران ان شيئا لم يتغيّر لا في المنطقة ولا في العالم. فقدت القدرة على التكيّف مع الحرب الاقتصادية التي تشنّها عليها اميركا بهدف واضح كلّ الوضوح. يتمثّل هذا الهدف في التحوّل الى دولة طبيعية لا اكثر، أي دولة تهتمّ بشؤونها الداخلية. هذا ما يريده العرب، الذين يعرفون ما هي «الجمهورية الإسلامية» عن ظهر قلب أيضا. هل تستطيع ايران التكيّف مع المعطيات العربية والأميركية. الجواب بكلّ بساطة ان دعوة الرئيس دونالد ترامب «الجمهورية الإسلامية» الى حوار هو إحراج لإيران اكثر من ايّ شيء. فشروط الحوار الاميركية معروفة تماما وهي النقاط الـ12 التي تصبّ كلّها في تحوّل «الجمهورية الإسلامية» الى دولة من دول المنطقة بعيدا عن وهم «تصدير الثورة». يقول ترامب انّه لا يستهدف تغيير النظام في ايران. لكن السؤال الاهمّ هل يمكن لهذا النظام تغيير جلده وأن يبقى في السلطة في الوقت ذاته؟