فهم النظام الإيراني هو الوصول إلى حل نصف المشكلة العالقة بين العرب، وخاصة عرب الخليج، وبين النظام في طهران، أما النصف الثاني فهو فهم النظام الإيراني لطموح العرب وتطلعاتهم. والدعوة إلى الفهم ليست الفهم العاطفي، وليست الفهم من منظور طافح بالآيديولوجيا، وكلاهما فهم منقوص، إنما الفهم بمعنى تشريح الوقائع والبناء عليها واعتبارها وجهة نظر يصحُّ أن تطور وتحتمل التصحيح.
عندما وقف الرئيس حسن روحاني في الأمم المتحدة ليخطب في العالم، قدم منظوراً فيه عدد من الرسائل بعضها يناقض البعض الآخر… خطاب ثوري وضع كوبا والصين وروسيا وفنزويلا في صفه (وهي دول لها ثأرية من نوع ما مع الغرب الصناعي) ولكن ليس من الضرورة أنها نفس ثأرية إيران! وطلب من أميركا أن تعتذر وتعكس ما قامت به من (عقوبات) حتى يوافق نظامه على الحديث معها! ما يواجه النظام الإيراني هو (أزمة هوية)، غير معترف بها من قبله تتبلور في تضخم في الفخر القومي، تلك الأزمة لها عدد من المظاهر، يمكن تلخيصها في المحاور التالية:
المحور الأول رجل الدين والسياسة: تسيطر على النظام الإيراني غلبة رجال الدين في توجيه القرار، وحتى من ليس لهم علاقة (مدرسية) بالدين، يميلون إلى إظهار التدين، وهذا يأخذنا إلى مستويين؛ الأول عندما يتحول رجل الدين إلى السياسة يفقد الدين المعنى الروحي والأخلاقي ويتوه في دروب السياسة. أما المستوى الثاني فمن أجل حشد الأنصار يُضيق الدين الرحب، الذي يجمع الإيراني مع العربي مع الباكستاني مع الإندونيسي إلى ضيق المذهب، تؤخذ سماحة الإسلام الحضاري إلى زقاق مذهبي، يعرف قبل غيره أنه لا يواجه (العرب السُنة) والذي يرى أنه يخالفهم الاجتهاد السياسي، بل وأغلبية المسلمين في سبيل الحفاظ على عصبية مذهبية.
المحور الثاني العرب والفرس: هناك شعور بالعداء غير المبرر بين الفرس والعرب، فالشعور القادم من الأول هو شعور تاريخي مخلوط بوطنية (قومية) حديثة. هناك قناعة لدى (الفكر القومي الإيراني) أن العرب في وقت ما (كانوا غزاة) لفارس ذات الحضارة الضاربة في التاريخ. هذا الشعور يخالطه أن (دين العرب) هو السائد بينهم، لا يستطيع رجل دين إيراني أن يتقدم في مسار التعليم الديني إلا أن يكون ضليعاً في اللغة العربية، وهكذا خلقت هذه الثنائية هواجس لدى الإيراني المعاصر، كانت موجودة في البهلوية وتعمقت في (ولاية الفقيه)، هم ضد العرب ومدافعون عن (الإسلام ذي الجذر العربي) في نفس الوقت! وليس سراً أن صورة العربي (الذي تسميه الثقافة الفارسية الحالية الأعرابي) في خلط مفاهيمي لإظهار الازدراء المقنع، صورة سلبية في الثقافة الإيرانية وكتب المدرسة، ويشار إلى دخول الإسلام إلى فارس على أنه فترة (الاحتلال العربي) كل ذلك هو إيقاظ لهواجس تاريخية لم يعد لها وزن في التاريخ المعاصر، ولكنها تستخدم من أجل (شد العصب السياسي) وربما المؤطر بالمذهبية من أجل أهداف سياسية، بعضها آنيٌّ وبعضها تاريخي، ليس له مكان في العلاقات الدولية اليوم. عندما نرى تعبيرات الثقافة الفارسية اليوم نجد أنها لا تنفك من الجذر العربي، فيكفي الإشارة إلى الأسماء حسن روحاني، محمد جواد ظريف، محمد خاتمي، وغيرها الكثير هي أسماء عربية، لم يعد عالمنا يهضم (التفوق الحضاري)؛ فكل الحضارات ساهمت في التقدم الإنساني، أما البشر فهم متساوون بيولوجياً كما قرر العلم الحديث.
المحور الثالث إيران والغرب: إحياء القومية الإيرانية تجاه الغرب (الاستعماري) يمكن ملاحظته في الخلفية الصراعية الحالية، فالكثير من الشعور القومي الإيراني المعادي للغرب (خاصة الغرب الاستعماري) نابع من شعور عميق بالغبن الذي وقع على الإيرانيين، وخاصة في مسيرة القرن العشرين الماضية، إلى درجة أن الشعور المعادي للغرب حمل ليس القطاعات (المتدينة) من الإيرانيين، بل وحتى القطاعات الحديثة، للاصطفاف مع النظام بسبب موقفه القومي من الغرب. يحدثنا هومن مجد، وهو رجل يصف نفسه بأنه علماني ويميل إلى الحداثة، في كتابه «اختلاف آيات الله: حيرة إيران الحديثة» أنه وهو طالب في المدارس العامة في لندن كان يجد صعوبة في شرح أين تقع إيران لزملائه، أما بعد الثورة فقد أصبحت إيران (بلده) على رؤس الأشهاد ويطلب ودَّها حتى من الدول الكبرى! لأنها وقفت ضد النفوذ الغربي. هذا موقف واسع القبول من قبل نخب إيرانية ليس لها ود مع النظام الديني، ولكنها (فخورة قومياً). هنا تكمن حيرة أخرى، فقد تطور النظام القومي العالمي منذ بداية القرن العشرين، وشهدت العديد من أشكاله المتشددة نتائج كارثية في وسط القرن مع الفاشية والنازية، ولم يعد (الموقف القومي) يعني الكثير في عصر العولمة وثورة الاتصالات المسيّرة بكون واحد. الذهاب بعيداً في تعميق القومية يقود إلى شيزوفرينيا تدعى التفوق، وتنتهي إلى كوارث كما حدث في تاريخ العالم الحديث. من جهة أخرى لم يعد الغرب (الاستعماري) كما هو حتى عقود أخيرة، هذا ما فهمه من قبل بعض القيادات الإيرانية، إلا أن ذلك الفهم قوبل بصد، ففكرة محمد خاتمي في (حوار الحضارات) هي محاولة للخروج من الحالة الصدامية الثورية غير التاريخية إلى مساحة من الفهم المشترك، لم تقبل فكرة (المثقف خاتمي) بل حوصر حتى إبقائه حبيس منزله! غادر الغربيون فكرة الاستعمار ولم يغادرها بعض الشرقيين ومنهم الإيرانيون! فأصبح معسكر الثورة ضد الغرب خاوياً. لم يعد هناك اتحاد سوفياتي، ولا حتى كوبا كاسترو ولا صين ماو تسي تونغ، فليس لدى النظام الإيراني ما يقدمه (نظرياً) في تصدير الثورة. الشعار ينفعه فقط من أجل استمرار إقناع العامة من الإيرانيين بالتضحيات الجسام التي تقع على عاتقهم في سبيل هدف لا يمكن جزماً تحقيقه، هي مشابه إلى حدٍّ كبير بوعود هتلر في حكم العالم، فالعالم اليوم مشروع للعقل وليس مشروعاً للوهم. الثورة الحقيقية اليوم هي ما يقدمه النظام (أي نظام) لرفاهية شعبه، هكذا تسعى الصين وكوبا الحديثة وغيرها من البلدان. التاريخ لا يبقى مكانه جامداً إلا للبلهاء!
المحور الرابع تصدير الثورة للجوار: على الرغم من الجهود المبذولة من النظام الإيراني في الجوار والاستثمار الصخم المقدم، إلا أن المشروع (في تصدير الثورة ومن ثم حكم الفقيه) أو ما يشابهه يبوء بالفشل في الساحات المختلفة. في العراق يتوق العراقيون إلى حكم حديث يبني مؤسسات حديثة على الرغم من التدخل الإيراني الثقيل. وفي لبنان تفشل الدولة وتكاد تصاب بالإفلاس نتيجة مباشرة للتدخل الإيراني. وفي سوريا الشعور الوطني السورى مقاوم بطبيعته للهيمنة، وفي اليمن يحتشد اليمنيون ضد مشروع التبعية الحوثية لإيران في كل تلك المناطق. المرحلة هي صراعية حتى اليوم، وهي نتيجة عاملين؛ فشل الدولة وهجمات إيرانية دمرت بلداناً، وعصفت بالسلم الأهلي في أماكن أخرى، إلا أن المعركة لم تنتهِ، لأن الشعور الوطني متوفر لدى العرب، وليس حصراً على الإيرانيين! أما أدوات النظام الإيراني فقد استنفدت بقدر عدد الأصفار التي تضاف إلى عملتها الوطنية.
آخر الكلام:
عندما تقاد الشعوب بفكر شمولي قومي متشدد تصاب بالصرع وغالباً يأخذها إلى الحروب.