IMLebanon

إيران في العراق .. بداية الشرق الأوسط الجديد

مرّ اختراق عشرات آلاف الإيرانيين الحدود العراقية المعترف بها دولياً، بحجة المجيء الى كربلاء في ذكرى اربعين الحسين، مرور الكرام. مثل هذا الحادث، اي وجود ايران في العراق، كان يتسبب بحروب في الماضي، لكنهّ صار امراً عادياً يمكن معالجته بتصريح من هنا وموقف مزايد من هناك، من دون اي فعل على الأرض.

بعد ايام، جاء الاعلان المفاجئ عن الوجود التركي الى الموصل، والذي يبدو انّه قديم بموجب اتفاق بين الدولتين، ليؤكد ان العراق مستباح وانّ كلّ ما تستطيع الحكومة العراقية عمله هو الإحتجاج وذلك لإثبات انّها موجودة. المؤسف ان الإحتجاج على الوجود التركي، جاء لتبرير الوجود الطاغي لإيران والتغطية عليه. كذلك، يمكن ان يندرج في سياق التدهور في العلاقات بين تركيا من جهة وايران وروسيا من جهة اخرى بسبب سوريا واسقاط تركيا للقاذفة الروسية. 

في ما يخص الوجود الإيراني العسكري والمدني، احتج العراق رسميا، لكن الإحتجاج لم يترافق مع اي اجراءات ذات طابع جدّي من اي نوع. لن تكون للإحتجاج اي متابعة، نظرا الى أنّ طابعه شكلي، بل من باب رفع العتب لا اكثر. يكشف ذلك هشاشة السيادة العراقية وسقوط الحدود بين العراق وايران في ضوء الغزو الأميركي لهذا البلد العربي، سابقا، وتسليمه على صحن من فضّة الى ايران.

سقط العراق وسقطت معه منطقة المشرق العربي، من دون ان يعني ذلك ان نظام صدّام حسين كان يجب ان يبقى وانّه كان ضمانة للعراق والعراقيين ولمنظومة الأمن العربية، خصوصا بعد احتلاله الكويت في العام 1990.

حطم ايرانيون منفذ الزرباطية بين العراق وايران في محافظة واسط. دخل عشرات آلاف الإيرانيين الاراضي العراقية من دون تأشيرة او اذن. حصل ذلك عن سابق تصوّر وتصميم في منطقة يزداد فيها يوما بعد يوم عمق الشرخ المذهبي واتساعه. ارادت ايران بكلّ بساطة توجيه رسالة، الى كلّ من يعنيه الأمر، بما في ذلك العراقيين انفسهم. مضمون الرسالة انّها لم تعد تعترف بالحدود الدولية للعراق، كدولة ذات سيادة. صار الرابط المذهبي فوق الحدود المعترف بها دوليا.

ما بدأ في العراق كان الفصل الأوّل من مسلسل نشهد في كلّ يوم فصلا جديدا منه. عنوان المسلسل حلول الرابط المذهبي مكان السيادة الوطنية. صار هذا الرابط أهمّ بكثير من ايّ حدود، معترف بها، بين دولة عربية واخرى. تفوّق المذهب على الحدود. 

لذلك، لم يعد مستغربا ان يدخل ايرانيون الى العراق، بحجة احياء اربعين الحسين، او ايّ مناسبة دينية او تاريخية اخرى من دون كلفة او تأشيرة. الأرض ارضهم والبيوت بيوتهم وذلك منذ حصول الإتفاق الأميركي – الإيراني على خوض حرب العراق معا.

لم يكن لدى الإدارة الأميركية اي حليف اقليمي حقيقي في حربها على العراق سوى ايران. في مقابل تعاون ايران، قدّمت ادارة جورج بوش الإبن كلّ التنازلات المطلوبة. شملت هذه التنازلات تلبية طلب يدعو الى الإقرار بوجود «اكثرية شيعية في العراق». وردت هذه العبارة في البيان الختامي لمؤتمر لندن الذي عقدته المعارضة العراقية في كانون الأوّل – ديسمبر من العام 2002، اي قبل اربعة اشهر من بدء العملية العسكرية الأميركية. كان في الإمكان الكلام عن اكثرية عربية في العراق، في حال اخذنا في الإعتبار الشيعة العرب والسنّة العرب معا. لماذا كان ذلك الإصرار على عبارة «الأكثرية الشيعية» والإصرار على التمييز بين القوميات والمذاهب؟

في كلّ الأحوال، وضعت ادارة بوش الإبن حجر الزاوية للشرق الأوسط الجديد، انطلاقا من العراق، بالتفاهم مع ايران. قبضت ايران سلفا ثمن دفعها لبعض الأحزاب والتنظيمات الشيعية الموالية لها مثل «المجلس الأعلى للثورة الإسلامية» الى المشاركة في مؤتمر لندن وتوفير غطاء للإجتياح الأميركي الذي توّج بحدثين جاءا بعد اسقاط النظام الذي كان على رأسه صدّام حسين. 

تمثّل الحدث الأول بتشكيل مجلس الحكم الإنتقالي الذي كرّس تهميش السنّة العرب، والآخر حل الجيش العراقي، بما وفّر لاحقا حاضنة لـ»داعش» وكلّ الحركات الإرهابية التي مهدت لصعود هذا التنظيم الإرهابي وتمدّده في كلّ الإتجاهات. حصل ذلك بتشجيع من النظام السوري اوّلاً وبسبب وجود الميليشيات الشيعية المدعومة من ايران، تلك الميليشيات التي اخذت مكان الجيش العراقي ذي التاريخ الطويل والتقاليد العريقة.

يعطي تجاوز الحدود العراقية – الإيرانية بالطريقة التي حصلت بها، ثمّ الدخول التركي الحديث نسبيا، فكرة عن الشرق الأوسط الجديد الذي بدأ يتبلور في العام 2003. لم يعد غريبا بعد ذلك ان يربط «داعش» بين الأراضي السورية والأراضي العراقية التي فيها السنّة العرب وصولا الى الموصل المدينة التي يبلغ عدد سكانها نحو المليونين.

كذلك، لم يعد غريبا ان يتورّط «حزب الله» بصفة كونه ميليشيا مذهبية لبنانية تابعة لإيران في الحرب على الشعب السوري تحت شعارات تتحدّث عن حماية مزار الستّ زينب في ضواحي دمشق وقرى شيعية في الداخل السوري. عمليا، كان «حزب الله» يلبي طلبا ايرانيا يستهدف نجدة النظام السوري من منطلق انّه نظام اقلّوي لا اكثر.

ما نشهده حاليا اكثر من طبيعي في ضوء انهيار الحدود بين العراق وايران نتيجة المغامرة التي اقدمت عليها إدارة جورج بوش الإبن الذي لم يكن يدرك النتائج التي ستترتب على مثل هذه المغامرة المجنونة.

من المفيد في مثل هذه الأيّام العودة الى كلام صدر عن الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران في تبريره لدعم العراق عسكريا في مطلع ثمانينات القرن الماضي. 

وقتذاك، بدأت كفّة الحرب تميل لمصلحة ايران، فما كان من ميتران الّا ان وافق على «تأجير» العراق ست طائرات «سوبر اتندار» لم تكن البحرية الفرنسية تمتلك غيرها وتزويده صواريخ «اكزوسيت» وذلك من اجل ضرب الموانئ الإيرانية في الخليج.

قال الرئيس الفرنسي الراحل الذي لم يكن مغرما بصدّام حسين بأيّ شكل، ان المسألة تتجاوز الحدود القائمة بين بلدين. شدّد على ضرورة المحافظة على هذه الحدود التي عمرها مئات السنين، نظرا الى انّها «حدود بين حضارتين عظيمتين». 

شدّد ايضا على ان المحافظة على هذه الحدود يعني المحافظة على التوازن الإقليمي. انتهت الحرب العراقية – الإيرانية التي استمرّت ثماني سنوات بالمحافظة على التوازن الإقليمي. كان ذلك في العام 1988.

كلّ ما يمكن قوله الآن ان هذا التوازن انهار في ضوء وضع ايران يدها على العراق بدعم اميركي.

لم يكن الحدث العراقي مجرّد تغيير لنظام كان يجب تغييره ولكن في ظروف مختلفة واخذ في الإعتبار للمشروع التوسّعي الإيراني الذي يستثمر في الغرائز المذهبية. ترك هذا الحدث انعكاساته على كلّ المنطقة، خصوصا في سوريا التي صارت ارضا مستباحة بعدما رفض النظام فيها الإنصياع للإرادة الشعبية وفضل الدخول بدوره في الحرب المذهبية الدائرة في الإقليم.

ما زلنا في بداية حال المخاض التي يمرّ فيها الشرق الأوسط. المشهد الذي شاهدناه عند احدى نقاط الحدود بين العراق وايران والذي تلاه الوجود العسكري التركي في الموصل الذي لا يبدو انّه جديد، مشهد تكرّر وسيتكرّر. انّه حقّا الشرق الأوسط الجديد الذي نرى فيه تنسيقاً روسياً – اسرائيلياً في سوريا مع تغاض ايراني تام عن ذلك وتجاهل له. 

عش دهراً ترى عجباً.