سورية أم المعارك. وطهران لم تتردد منذ اليوم الأول في الانخراط فيها. وهي اليوم تقود الحرب مباشرة. حلت عملياً محل دمشق. تماماً كما حلت قبل في بغداد. وحدت هي أيضاً، كما «داعش»، الساحتين العراقية والسورية. وألغت الحدود. بعدما استنجد حيدر العبادي بـ «الحشد الشعبي»، استنجد وزير الدفاع جاسم الفريج بطهران عندما زارها أخيراً. سلمها عصا القيادة. ولم تتأخر، مدته بآلاف من الميليشيات المتعددة الجنسية. بلاد الشام باتت تحت رحمة الميليشيات بعدما تحللت الجيوش الرسمية. وسيعطي هذا قادة المقاتلين حق الإمساك بالقرار السياسي كاملاً. فإذا نجح «الحشد» الشيعي في هزيمة «الدولة الإسلامية» في الرمادي وغيرها، لن يصب النصر في خانة حيدر العبادي رئيس الوزراء. «الحرس الثوري» سيقطف الثمر. وكذا الأمر بالنسبة إلى سورية. فإذا اكتفى النظام بالشريط الساحلي، فإن مستقبل هذا الإقليم سيكون بيد من دافع عنه ووفر له الحماية. وإذا توجه نحو تسوية سياسية ما ستكون الكلمة الفصل بيد طهران. لذلك، لم يكن مستغرباً أن تستنجد دمشق في الأيام الأخيرة بموسكو. دعتها إلى تنظيم لقاء ثالث مع المعارضة لعله يفتح باب تسوية سياسية تبقي شيئاً بيد النظام ورئيسه بشار الأسد فلا يدفعه اليأس والخوف من تقدم خصومه نحو حلب والساحل والعاصمة إلى إلقاء نفسه كلياً ورقة في أحضان الجمهورية الإسلامية.
النظام السوري الذي كابر في اللقاءات السابقة في جنيف وموسكو يدرك جيداً أنه بتسليمه عصا إدارة الحرب إلى إيران لم يعد يملك حرية التصرف السياسي. ولكن، لم يكن مفر من هذه الكأس المرة. حتى روسيا التي بدت في الأشهر الأخيرة أكثر استعداداً للبحث في مستقبل الرئيس الأسد باتت تخشى خسارة نفوذها كاملاً ودروها تالياً في أي تسوية. لكنها لا تزال تملك ورقة قوية: حضورها في مجلس الأمن وتغيير موقفها باتجاه التوافق على أرضية مشتركة مع الشركاء الآخرين في المجلس. أمامها فرصة قريبة أو امتحان. المبعوث الدولي ستيفان دي ميستورا سيقدم إلى المجلس تقريراً شاملاً منتصف الشهر المقبل يضمنه نتائج اتصالاته وتحركاته مع جميع المعنيين بالأزمة السورية. لم يعد سراً أنه عاد إلى المربع الأول منطلقاً من بيان جنيف الأول (حزيران – يونيو 2012). وفي رأس مطالبه من الخمسة الكبار، أو بالأحرى من الولايات المتحدة وروسيا، التوافق على تفسير واحد لبنود البيان. من الجسم الانتقالي الذي سيحكم في المرحلة الانتقالية إلى دور رأس النظام.
المبعوث الدولي لا يخفي حقيقة ما توصل إليه من قناعات وإن لم يصرح علناً. يعرف أن دمشق أحبطت مشروعه الأول قبل أشهر لوقف نار في حلب. ويفصح في لقاءاته الخاصة والضيقة بأنه لا يمكن أن يكون هناك دور للرئيس الأسد في أي تسوية. فهل تسهل موسكو دفع الأمم المتحدة إلى نقطة تفاهم مع أميركا وأوروبا على صيغة تنتهي بالتغيير المطلوب في سورية؟ راهنت حتى الآن، مثل شركائها الدوليين، على وجوب الحفاظ على هياكل الدولة، خصوصاً المؤسسة العسكرية، وعلى جزء من النظام. وهدفها الأول والأخير الحفاظ على مصالحها السياسية والأمنية في هذا البلد. ولكن، بات مصير النظام اليوم وهياكله ووحدته الترابية ومستقبله بيد «الميليشيات الإيرانية» المكلفة حماية النظام والدفاع عن مناطقه أياً كان حجمها. ولا ترغب موسكو في رؤية ميليشيات تحكمها عقيدة دينية مذهبية متشددة، تمسك بالقرار سواء في سورية أو في أي بلد آخر. فهي تدرك أن ترسيخ إيران أقدامها في سورية كما في العراق، عبر هذه الميليشيات، سيدفع أهل السنّة إلى التمسك بالفصائل الإسلامية المتشددة، من «داعش» إلى «النصرة» وما شابههما. وترى إلى ذلك تهديداً مباشراً لأمنها القومي، انطلاقاً من الشيشان داخلياً أو من الدول الإسلامية التي استقلت عنها ولم تستقل. كما أنها لا يمكن أن تجازف بخسارة آخر مواقعها في الشرق الأوسط لحساب الجمهورية الإسلامية. وهي تخشى أن يتعاظم التعاون بين طهران وواشنطن على حسابها، إذا رأى الاتفاق النووي النور آخر هذا الشهر.
خرج الصراع في المنطقة عن قواعده المألوفة. لم يعد الكبار يقفون خلف القوى المحلية في ساحات المواجهة. لم تعد «عاصفة الحزم» نهجاً فريداً في اليمن. أخذت دول التحالف العربي الجديد المبادرة بيدها مباشرة بعدما تبدى دور إيران جلياً بلا قناع في صنعاء وغيرها. وبعدما ملأت تصريحاتها العالم تبجحاً! وإذا توافقت تركيا مع أطراف عربية ووقفت بخفر في سورية خلف اندفاعة الفصائل الإسلامية وعلى رأسها «جيش الفتح»، فإن طهران لم تتردد في رفع التحدي، وإعلان انخراطها المباشر لمواجهة النار بعد اقترابها من الخطوط الحمر. باتت الفصائل المتشددة على مقربة من دمشق التي قال الإيرانيون من زمن أن سقوطها يعادل سقوط طهران نفسها. وإذا كان مقاتلو «حزب الله» لا يكفون لمهمة الدفاع عن العاصمة، فإن الجمهورية الإسلامية مستعدة لإرسال الآلاف من أبنائها ومن العراق وأفغانستان وغيرهما. لن تسمح بسقوط الرئيس الأسد. وستحاول إعادة شيء من التوازن إلى كفتي الميزان في مسرح العمليات بعد الخسائر التي مني بها حليفها في أكثر من منطقة. وإذا كان المطلوب إسقاط النظام في دمشق، فإنها لن تسمح بانهياره. فإذا لم تقدر على حماية العاصمة فإنها بالتأكيد ستستميت للدفاع عن الساحل. وستسعى سريعاً إلى مده بأسباب القوة عبر ربطه بالسهل اللبناني في البقاع.
أما إذا كانت المكاسب التي تحققها المعارضة محدودة الأهداف ورهن تسهيل انعقاد «جنيف – 3» فقط، فعلى النظام السوري أن يحضر قوياً وليس تحت تهديد السقوط. هذا ما تريده إيران. يجب ألا تمر التسوية في محادثات أو تفاهمات بين واشنطن وموسكو بعيداً منها. وقد أقلقها ما خرج من أجواء إثر زيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري موسكو أخيراً. لذلك، يحقق لها زجها بمزيد من القوات في الميدان السوري، هدفين أساسيين: الأول أنها باتت القوة المقررة على الأرض، ولا يمكن تجاوز رأيها وموقفها في أي حوار أو تسوية سياسية. وإذا تعذرت التسوية تكون هذه القوات الضامن الأول والحصن المنيع الذي يدافع عن قيام الإقليم العلوي في الساحل السوري. ومنه يمكن بقاء البوابات مفتوحة مع سهل البقاع، خصوصاً بعد خروج كل البوابات مع تركيا والأردن من يد السلطة وسيادتها. وإذا كانت عرسال ستشكل عقبة فالخطط جاهزة لإزاحة هذا الجدار أو الحاجز العقبة. ومنذ انفجار الأزمة كان هناك حرص واضح على بقاء طريق دمشق – بيروت مفتوحة مهما كلف الأمر وأياً كان الثمن. وأبعد من ذلك يجب أن تبقى الطرق مفتوحة بين البقاع الشمالي والساحل الغربي لسورية. فهذه تشكل شريان وصول الامدادات التي يحتاج إليها «حزب الله». لذا، بكر مقاتلوه في معركة القصير، ويصرون اليوم على إزالة المضيق، بلدة عرسال وجرودها، لتكون طريقهم إلى مرافئ سورية البحرية مفتوحة.
هذا المدد الإيراني ينذر بمعارك شرسة ستحتد بعد انتهاء الانتخابات التركية. عندئذ تتفرغ غرفة العمليات التي تساعد الفصائل المعارضة لمواصلة الحرب على النظام. لذلك، قد لا يكون الطرفان، التركي والإيراني مستعجلين لانعقاد «جنيف – 3». ربما احتاجت القوى التي زجت بها طهران إلى بعض الوقت لاسترجاع شيء مما خسره النظام. فيما المعارضة ستحرص على مواصلة الزخم الذي بدأ في الشهرين الأخيرين. وبصرف النظر عن هذه الاعتبارات ليس مطروحاً إشراك «داعش» و «النصرة» في التسوية. وكلاهما العنصر الأساس والفاعل في مسرح العمليات. وليس في الأفق ما يوحي بأن التحالف الدولي سيكون قادراً على دحر التنظيمين لتسهيل الحلول السياسية في بلاد الشام. فلا الحرب القائمة منذ سنة في بلاد الرافدين أثمرت نتائج باهرة، ولا السياسة الأميركية باتت أكثر وضوحاً بمقدار ما ازداد الارتياب في دورها. ولن تفلح إدارة الرئيس باراك أوباما في إقناع المرتابين بأن طائراتها لم تقصف أرتال «الدولة الإسلامية» وهي تتحرك مئات الكيلومترات نحو تدمر في صحراء خالية وتحت سماء مكشوفة لئلا تتهم بأنها تدافع عن النظام! فهي تعرف جيداً أن هدف دمشق وطهران هو تعزيز مواقع «داعش» على حساب الفصائل المعتدلة. تماماً كما هي الحال في العراق: يمنع السلاح عن العشائر السنّية فيما يتراجع الجيش أمام تقدم التنظيم في الرمادي وغيرها. فلا يبقى أمام قوات التحالف الدولي شريك على الأرض سوى الميليشيات التي يرعاها ويقودها قاسم سليماني. أي أن إيران تريد تسويق نفسها الشريك الوحيد للغرب في حربه على الإرهاب. فيما تهدد عشائر الأنبار بمهادنة «داعش» الذي سيتحول مع طول المعركة إلى محاور للآخرين، من إيران والدول الأخرى المعنية بمصالح سياسية وأمنية واقتصادية بالمنطقة.
المسألة الأكثر خطورة في ما يجري في كل من العراق وسورية هي أن الدولة وهياكلها في كلا البلدين تبدو الأكثر ضعفاً وعجزاً أمام قوات الميليشيات. بعد هذا، كيف يمكن الساعين إلى تسوية سياسية أن يتحدثوا عن وجوب الحفاظ على الجيش هنا وهناك فيما يد الميليشيات هي الأعلى؟ مثل هذا ألا يدفع أهل السنّة دفعاً إلى أحضان «داعش»، جيشهم البديل والقوي القادر على مواجهة الجمهورية الإسلامية وميليشياتها؟ هكذا تغدو «الدولة الإسلامية» في مواجهة الجمهورية الإسلامية التي باتت تملك مفاتيح رئيسية في رسم الخرائط الجديدة أو إعادة إنتاج الهياكل القديمة! في حمأة الصراع قد لا يبقى متسع من الوقت لعقد «موسكو – 3» أو جنيف – 3». ولن يتوافر بديل أو شريك مقبول ليخلف رأس النظام في دمشق ويحفظ ما بقي من الدولة الواحدة. فمن يفوز في السباق؟ إيران أم روسيا وأميركا؟ الميليشيات أو المذاهب اللاهثة وراء إماراتها وأقاليمها أم اللاعبون في الخارج الساعون إلى بقاء ما يرمز إلى الدولة الواحدة؟