أرسى اللقاء بين وزير الخارجية الإيرانيّة محمد جواد ظريف ورئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري، مناخًا طيبًا استولد من رحمه لحظة مطلّة على حالة نوعية وموضوعيّة من العلاقة بين الرئيس الحريري وإيران، بعد حقبة من التوترات المتداخلة بالصراع السعوديّ-الإيرانيّ. بتقدير أوليّ، إنّ مشهد الصراع بحدّته لم يعد مهيمنًا بثقلة على الواقع اللبنانيّ، على الرغم من أنّه تداخل غير مرّة وتفاعل على الأرض اللبنانية وأنتج مناخاً من التشنّج والتفسّخ. لقد توضّحت الرؤية في اللحظة التي أنضجت التسوية بالدور الإيرانيّ في كثافته ودسامته، ومشاركة الروس والأميركيين، وأعادت الحريري على راس الحكومة. ليس الاستلحاق السعوديّ منتجًا حقيقيًّا، ولم يعد بقدرته فرض التعطيل كما فرضه فيما سبق، بعد التدحرج الرهيب والعبثيّ بفعل احتراق الأوراق ومن ثمّ بفعل قانون جاستا المسلط كسيف على وضعهم.
يسأل عدد كبير من المراقبين، هل بتنا أمام عصر إيرانيّ متفاعل مع الداخل اللبنانيّ، ومسام بقوّة في إرساء قواعد الحقبة الجديد؟ لا يفترض على الإطلاق أن يكون الدور محصورًا في لبنان، إنّما على وجه التأكيد لقد بدأ من لبنان، وهذا ما توقّعه كثيرون منذ ن تمّ التوقيع على الاتفاق بين إيران والدول 5+1، والأميركيون كما الروس جزء أساسيّ في هذا الاتفاق، وجزء أساسيّ في تكوين الدور الجديد، بفعل المقايضة التي حصلت قبل الاتفاق الدوليّ ومن ثمّ بعده. ويبدو في حقيقة الأمر بأنّ العصر الإيرانيّ سيشمل سوريا ولبنان والعراق، بالتفاعل المرن والإيجابيّ، يضاف إليه أنّه سيثبّت في سوريا الرئيس بشار الأسد بصورة جذريّة وحتى نهاية عهده في التسوية الجديدة ورعايتها وفي الحكم.
لقد ارتكزت اللعبة الجديدة على قاعدتين، وتجلّت آفاقها من عمارتها المتكاملة الأجزاء، يقودها الروس كحلفاء لإيران وشركاء في التفاعل وإنتاج الحلول وإنضاجها بعد الحسم الميدانيّ.
1- القاعدة الأولى تأكيد بقاء الرئيس بشار الأسد على رأس السلطة في سوريا، والتأكيد لم يتمّ بضمانات دوليّة، بل تمّ على وجه التاكيد بصمود الأسد حيث اتنزع من الدول اعترافًا متجدّدًا به وفي الوقت عينه إقرارًا بعدم القدرة على تفعيل الانقلاب عليه. فقد ثقبت عناصر الدعم السابقة وعطبت ومن ثمّ أبطلت مفاعيلها. ساهم بذلك الدعم الروسيّ-الإيرانيّ، ففهم الآخرون بأنّ التسوية غير ممكنة إلاّ مع الرئيس الأسد وبرعايته ورئاسته. وما المعارك ما بين الرقة وحلب ودير الزور سوى التأكيد على هذا الاستنتاج.
2- القاعدة الثانية انتخاب العماد ميشال عون في لبنان رئيسًا للجمهوريّة اللبنانيّة. لقد جاء انتخابه بعد صراع مرير يشبه الى حدّ كبير الصراع في سوريا، مع الفارق بأنّه في لبنان سياسيّ في حين أنّه في سوريا عسكريّ. هذا الصراع عمره ستّ وعشرون سنة، حيث تآمرت الدول عليه لإخراجه من قصر بعبدا فنجحت، كانت اللحظة مغايرة لهذه اللحظة من ضمن تغيير استراتيجيّ أعاد سوريا من جديد وبصورة مباشرة إلى لبنان، فحكمته من ضمن صفقة مع الأميركيين شارك بها السعوديون من خلال إنتاج السنية السياسيّة مع الرئيس رفيق الحريري، فيما نفي «الجنرال» إلى فرنسا ووضع قائد القوات اللبنانية سمير جعجع آنذاك في السجن… وبعد عودة العماد عون من المنفى القسريّ، بدأت المعركة الفعلية للعودة إلى القصر، وهي ليست عودة إليه بقدر ما هي استعادة لوطن مفقود كما كان يقول كريم بقرادوني. ثمّة لحظة استراتيجية واكبت اللحظة الجديدة الناشئة في سوريا بفعل تراكم الأحداث فيها سنة 2011، فهي مزيج من سعي حثيث وقراءة استشرافية سكن عون حروفه ومعانيه، فوقع ورقة تفاهم مع أمين عام حزب الله حسن نصرالله، واتجه نحو سوريا، ورسّخ بالسعي زعامته على مسيحيي المشرق العربيّ من البوابة السوريّة معيدًا مسيحيي وموانة لبنان إلى جذورهم بعد طول غربة، وبعد انفجار الأحداث فيها، راهن الرجل على عوامل جديدة ستساهم بعودته إلى القصر واستعادته للوطن الميثاقيّ، منها:
1- دخول روسيا إلى سوريا في حديث له سنة 2013 مع الإعلاميّ غسّان بن جدّو.
2- التفاعل الإيرانيّ الميدانيّ مع الأحداث من العراق إلى سوريا وسينتج التفاعل المذكور ثنائيّة جديدة تتملك عناصر الشراكة الحقيقيّة في دفع الاور نحو الحسم.
3- الانكفاء السعوديّ والسعوديون كانوا قد وضعوا على وصوله إلى قصر بعبدا فيتو فبعد الانكفاء واحتراق أوراقهم لم يعد لهذا الفيتو أي معنى أو محتوى.
4- التحوّل الأميركيّ الجذريّ في قراءته لعناصر الأزمة في المنطقة، وبخاصّة مع إقراره ببقاء الأسد في السلطة واعترافه بفاعلية الدور الروسيّ الجديد وقوّته، ومن ثمّ الخلاف الكبير مع السعوديين وقد بلغت اسوأ المراحل مع إقرار الكونغرس الأميركيّ قانون جاستا. وهذا التحوّل كان بدّ ذاته عاملاً مساعدًا لدعم السعي.
5- الاتفاق الإيرانيّ- الدولي 5+1، وهو بجوهره اتفاق مع الأميركيين كان اساسيًا وجوهريًّا في استيلاد المرحلة الجديدة على المستوى اللبنانيّ، فسكنها العماد عون من باب كبير هو التحالف الاستراتيجيّ والمتين مع حزب الله، ودعم الحزب لترشيح العماد، لتستلحق القوى بأسرها نفسها في جوهر اللحظة وتؤكّد على هذا الانتخاب، بعمق التسوية التي أوصلته إلى قصر بعبدا.
6- صمو الرئيس بشار الأسد وقد كان العامل الكبير، وهنا تلتقي القاعدتان وتترسّخ في نموّ لحظة سياسيّة جديدة جاء محمد جواد ظريف والوزير السوريّ منصور عزّام ليؤكّدا عليها، ويقوم محتواها على النحو التالي:
7- تأليف حكومة جديدة باسرع وقت ممكن، ومن عناوين التسريع تأكيد الرئيس نبيه برّي على التعاون مع الرئيس ميشال عون فيما كان مضطربًا للغاية وكاد أن يضع نفسه في معارضة جديدة. الرئيس نبيه برّي فهم التلازم السوريّ – الإيرانيّ الجديد في استكمال مراحل التسوية في لبنان بحكومة وحدة وطنيّة.
8- تعميم التماسك السياسيّ فهو المنطلق لكلّ استقرار اقتصاديّ وأمنيّ. وتتوقّع المصادر أن تتعاون الأجهزة على ضرب الإرهاب على الحدود اللبنانيّة-السوريّة وسيتجلّى ذلك في المراحل المقبلة.
9- إقرار قانون انتخابات جديد وتقول المصادر بأنّه سيعتمد المشروع المختلط 62+62 مع العلم أنّ معظم الخبراء أكّدوا انّه مشورع ممسوخ وهجين.
وزير الخارجيّة الإيرانيّة محمد جواد ظريف ثبّت في مجيئه تلك اللحظة الجديدة وسيكون الرئيس الحريري جزءاً متفاعلاً معه بصورة إيجابيّة، فقد انتظر طويلاً للتأسيس لهذا المشهد الجديد، وسيكون ميثافيًا عنوانه بناء الدولة والتواصل بتوازن مع الجميع.
معظم المراقبين يراهنون على نجاح التجربة الجديدة بين رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الحكومة سعد الحريري، لقد عاين الجميع حجم عون بعد يوم الأحد، وسيتمّ التعاطي معه وفقًا للمحتوى السياسيّ وهو المؤيِّد بحشد كميّ ونوعيّ، لا مجال بعد الآن أن يتمّ التعاطي معه كما تمّ التعاطي مع عهدين سابقين. المرحلة الجديدة مرحلة اللقاء بين الوجدانيات في بناء دولة قادرة وفاعلة ولبنان جديد متفاعل مع الأمم والشعوب.