اندلاع مواجهة مسلحة بين الولايات المتحدة الأميركية وكل من إيران و «حزب الله»، لم يكن أمراً مستبعداً في أي وقت، غير أن الترتيبات المتعلقة بالتحسُّب لمواجهة هذا الاحتمال كانت نهاية عهد باراك أوباما تجري في سياق وقائي، تحت مظلة التخطيط الإستراتيجي المعتاد لمواجهة مختلف مصادر التهديد. أما الآن فقد تغيَّر الوضع كثيراً، فالقادم الجديد إلى البيت الأبيض لا يؤمن بإمكانية التعايش مع إيران و «حزب الله»، ويرى أن «تغيير النظام» هو المنهج الوحيد الملائم للتعامل معهما، ومن ثم لا أستبعد أن يكون قرر الانتقال من مرحلة «التحسب الوقائي» لاحتمال اندلاع صدام مسلح مع إيران و «حزب الله» إلى مرحلة «التجهيز الميداني» لشن الحرب عليهما. لذا أظن أن السؤال المطروح، لم يعد يدور حول ما إذا كانت الحرب ستقع، وإنما حول متى وكيف.
قد يبدو هذا الاستنتاج بالنسبة إلى البعض متسرعاً بعض الشيء، أو ينتمي إلى عالم التنجيم بأكثر مما ينتمي إلى علم السياسة. غير أنني أهيب بالنخب العربية ألا تستهين بتأثير العامل الإسرائيلي على تحوّلات السياسة الأميركية، وأودّ تذكيرها هنا بحدة الخلاف الذي وقع بين نتانياهو وأوباما عقب توصُّل الأخير إلى اتفاق حول برنامج إيران النووي. فقد انزعج نتانياهو من هذا الاتفاق إلى الحد التي دفعه ليس فقط إلى إدانة الاتفاق الذي اعتبره خنجراً في ظهر إسرائيل، وإنما أيضاً إلى تحدّي أوباما في عقر داره بإلقاء خطاب على رغم أنفه في الكونغرس لتأليب الرأي العام عليه.
الآن، وبعد أن اقترب الموقف الأميركي تجاه إيران و «حزب الله» إلى حد التطابق مع الموقف الإسرائيلي، لم يعد لديَّ من شك في أن العامل الإســرائيلي سيكون أحد أهم العوامل المعجّلة بشن الحرب، والتي لا أســــتبعد أن تــندلع قبل نهاية فترة الولاية الأولى لترامب، إذا استطاع الأخير أن يصـــمد أمام مــحاولات إسقاطه.
الإحساس بحتمية الصدام المسلح مع إيران و «حزب الله»، وربما بقرب موعده أيضاً، تسلّل إلى نفسي عقب متابعتي أعمال الدورة الثانية والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، واستماعي إلى خطابَي ترامب ونتانياهو. ولأنني لم أكتفِ بالاستماع إلى الخطابين وإنما حرصت على قراءة متأنية لنصّيهما بعد ذلك، فقد راح هذا الإحساس ينغرس عميقاً في وجداني. ولا أظن أنني أبالغ في القول، إنني أصبحت الآن على يقين تام بأن إسرائيل ستبذل كل ما في وسعها لإقناع ترامب، أو حتى لابتزازه إذا لزم الأمر، للتوصل إلى صيغة متفق عليها لتوزيع الأدوار والمسؤوليات، بحيث تتكفّل إسرائيل بشن حرب على «حزب الله» تستهدف ليس فقط إضعافه عسكرياً وإنما استئصاله كلياً وإخراجه من معادلة السياسة اللبنانية، بينما تتكفّل الولايات المتحدة بشن حرب متزامنة على إيران لا تكتفي بتدمير برنامجها النووي وإنما تواصل الضغط عليها إلى أن يتم تغيير النظام. خطاب ترامب في الجمعية العامة عكس «غرور القوة الحمقاء»، وحمل في طياته رسالة مفادها أن إدارته تتبنّى سياسة خارجية محورها «أميركا أولاً»، مؤكداً التزامه الشخصي الدفاع عن مصالح بلاده بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك استخدام القوة إذا لزم الأمر. المدهش في الأمر أن ترامب حاول تبرير هذا التوجه بالتخفّي وراء مفهوم السيادة الوطنية، مؤكداً أن الدفاع عن المصالح الوطنية ضرورة وواجب على كل قائد أو زعيم، بل ذهب إلى حد توجيه الدعوة إلى كل قادة العالم كي ينبروا مثله للدفاع عن مصالح بلادهم بالطريقة التي يرونها مناسبة.
واستناداً إلى هذا المنطق الغريب، سمح ترامب لنفسه بتوجيه تهديد مباشر لدولة عضو في الأمم المتحدة من فوق منبر الجمعية العامة نفسها، معلناً أنه «لن يتردّد في محو كوريا الشمالية من الوجود إن هي حاولت المساس بمصالح الولايات المتحدة أو أيّ من حلفائها»، ناسياً أو متناسياً أن إعلاء شأن «السيادة المطلقة» من دون ربط التصرفات السيادية للدول باحترام قواعد القانون الدولي، يتناقض كلياً مع متطلبات الأمن الجماعي، ويعدّ دعوة إلى الفوضى واعتماد قانون الغاب.
أما خطاب نتانياهو فعكس «نشوة القوة المزيفة»، وحمل رسالة مفادها أن إسرائيل أصبحت دولة عظمى، وعلى العالم أن يتعامل معها على هذا الأساس، حيث راح يتحدّث مطولاً عن «تحوّل جوهري طرأ على مكانة إسرائيل في العالم»، مستشهداً بزياراته التي «غطت القارات الست»، وذلك للمرة الأولى في تاريخ الدولة التي اعتبرها «أمة الابتكار»، ولديها الكثير مما يمكن أن تقدّمه للعالم في مختلف المجالات. وحرص نتانياهو، علاوة على تلك النبرة الاستعلائية التي تلامس حدّ العنصرية، على أن يشيد بزيارتين تاريخيتين لإسرائيل هذا العام، الأولى قام بها الرئيس الأميركي ترامب الذي أدرج تلك الدولة ضمن جولته الخارجية الأولى، والثانية قام بها مودي، رئيس وزراء الهند، حيث لم يسبق لأي رئيس وزراء هندي أن زار إسرائيل من قبل. ولم تفته الإشارة إلى أن ترامب «بوقوفه أمام جبل الهيكل وملامسته أحجاره القديمة لامس قلوب الشعب اليهودي الذي عاش على هذه الأرض ألف عام». غير أنه نسيَ، أو بالأحرى تناسى، أن تفوّق إسرائيل لم يقم إلا على أنقاض شعب اقتلعته من أرضه وأجبرت من بقي منه على العيش في كنف نظام فصل عنصري، باعتراف الأمم المتحدة نفسها.
كثيرة هي الخطابات «المتشددة» التي ألقيت في الجمعية العامة هذا العام، غير أن أياً منها لم يعكس شعوراً بغرور «القوة الحمقاء» مثلما عكس خطاب ترامب، أو بنشوة «القوة الزائفة» مثلما عكس خطاب نتانياهو، لكن الأمر المؤكد أنهما عكسا معاً درجة المتانة التي وصلت إليها العلاقات الأميركية- الإسرائيلية، والتي لا يدانيها نمط آخر في تاريخ العلاقات الدولية. فإذا أضفنا إلى ما سبق، أن علاقة الولايات المتحدة بحلفائها التقليديين الآخرين في المنطقة، كتركيا والسعودية ومصر، لم تكن على هذا القدر من الاهتزاز وعدم اليقين مثلما هي عليه الآن، لتأكد لنا أن المنطقة مقدمة على تحولات هائلة، قد تقود إلى رسم خرائط جديدة بمجرد الانتهاء من القضاء على «داعش»، وذلك وفق ما تمليه المصالح الأميركية الإسرائيلية أولاً وقبل كل شيء، وهو الأمر الذي تدرك إدارة ترامب أنه يستحيل أن يتم في ظل بقاء واستمرار القيادات الحالية لكل من إيران و «حزب الله».
صحيح أن تهديدات ترامب لكوريا الشمالية بدت أعنف، غير أن الفرق كبير جداً بين التهديدات «اللفظية»، ومنها التهديد الموجَّه إلى كوريا الشمالية، والتهديدات «الفعلية»، أي القابلة للترجمة إلى برنامج عمل ميداني وإلى واقع الأرض، وفي مقدمها التهديد الموجه إلى إيران. فالتهديد الموجَّه إلى كوريا الشمالية سيصطدم حتماً بحائط صد صيني- روسي، أما التهديد الموجَّه إلى إيران فلن يصطدم بأي رادع، ومن المؤكد أن إسرائيل ستلقي بكل ثقلها وراءه، خصوصاً بعد أن ضمنت تأييد عدد لا يستهان به من الدول العربية التي باتت تعتقد أن إيران أصبحت تشكل مصدر التهديد الرئيس لأمن المنطقة ككل. لذا لا أستبعد أن يكون قرار الحرب قد اتُّخذ من حيث المبدأ، وأن العد التنازلي سيبدأ فور الانتهاء من الحرب على «داعش»، وبالتالي لم يتبقّ سوى التوقيت وطريقة الإخراج وعملية التهيئة والإعداد للمسرحين الدولي والإقليمي. بل لا أستبعد أن يكون إصرار بارزاني على إجراء استفتاء حول انفصال أكراد العراق، بدعم كامل من حكومة نتانياهو، جزءاً من عملية التهيئة هذه.
فهل سينجح المخطط الأميركي- الإسرائيلي لتغيير النظام الإيراني وتصفية «حزب الله»؟ أشك كثيراً، وأعتقد أن مِن مصلحة الدول العربية أن تنأى بنفسها تماماً عن هذا المخطط وألا تنساق وراء الدعوات المطالبة بالتحالف مع إسرائيل تحت أي ذريعة، ليس فقط لأنه تحالف غير مبرر، وإنما غير مشروع أيضاً. وعلى العرب أن يبذلوا بعض الجهد لإعادة قراءة ما جرى للمنطقة وفيها خلال نصف القرن المنصرم، لأنهم لو فعلوا فسيصبحون على يقين بأن التحالف مع إسرائيل لن يكون فقط رهاناً على حصان خاسر حتماً، وإنما خطوة حاسمة على طريق تفكيك العالم العربي كله لمصلحة إسرائيل وبرعاية أميركية.