المفترض أن الذين تابعوا هذه المسألة قد لاحظوا أن بشار الأسد ومعه وزير خارجيته وليد المعلم قد بادرا فورا، بعد مباشرة الأردن بالغارات الجوية على تنظيم داعش ومواقعه في منطقة الرقة السورية ردا على الجريمة التي ارتكبها هذا التنظيم الإرهابي فعلا بحق الطيار الأردني معاذ الكساسبة، إلى اتهام المملكة الأردنية الهاشمية بمساندة الإرهاب، وهذا لا يدل فقط بل يؤكد على أن هناك أرضية مشتركة بين النظام السوري وهذه «الدولة» الشيطانية التي هي، إذا أردنا قول الحقيقة، صناعة إيرانية كانت بدأت مبكرا حتى قبل الغزو الأميركي للعراق في عام 2003.
لقد جاءت هذه الاتهامات مقدمة لاستيراد مزيد من التشكيلات المذهبية والطائفية، ومن بينها تشكيل جديد باسم «الفاطميون»، وتركيزها في الجنوب والجنوب الغربي من العاصمة دمشق ليس في اتجاه الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية، وإنما في اتجاه الحدود الأردنية التي تضم مدنا رئيسية من بينها مدينة إربد التي تعتبر المدينة الثانية، بعد عمان، في المملكة الأردنية الهاشمية.
إن كل هذه التشكيلات، وضمنها بالطبع حزب الله و«فيلق أبو الفضل العباس»، تشكيلات إيرانية تم إحضارها لتتمركز في هذه المنطقة الحساسة في إطار «فيلق القدس» بقيادة الجنرال قاسم سليماني لتحويل الحدود الأردنية – السورية إلى حدود أردنية – إيرانية، وهذا من غير الممكن أن يقبل به الأردن حتى وإن أدى الأمر إلى اندلاع حرب فعلية من المؤكد أنها إن اندلعت فإنها لن تبقى محصورة في مناطق الحدود، وأنها ستصل إلى دمشق وإلى أبعد من دمشق، وعندها فسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون!!
كان هذا النظام الذي أدخل سوريا في هذا النفق المظلم قد سحب قواته من مناطق التماس الحدودية مع الأردن على أمل أن «داعش» هو الذي سيملأ الفراغ بعد انسحاب القوات السورية، لكنه فوجئ بأن الجيش السوري الحر ومعه بعض فصائل المعارضة المعتدلة التي كل منتسبيها من السوريين، هو الذي قام بهذه المهمة، وهذا هو ما جعل بشار الأسد يتخذ هذه الخطوة الأخيرة التي هدفها تحويل الحدود الأردنية – السورية إلى حدود أردنية – إيرانية، والهدف بالطبع هو استنزاف هذا البلد ونقل داء الإرهاب إليه وفقا لتهديدات سابقة كان قد أطلقها الرئيس السوري بقوله مرارا وتكرارا إن هذه التنظيمات الإرهابية لن تسلم منها أي من الدول المجاورة!!
في كل الأحوال، فإن الواضح أن إيران التي غدت تحتل العراق وسوريا احتلالا مباشرا، باتت تسعى، ربما بصفقة سرية مع إسرائيل وبتواطؤ أميركي أصبح واضحا ولا لبس فيه، لإعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وإلا فما معنى أن تقوم بكل هذا التحشيد العسكري على الحدود الأردنية وعلى حدود الاحتلال الإسرائيلي لهضبة الجولان السورية في ظل صمت الإسرائيليين المريب؟ وما معنى أن تحقق كل هذا الاختراق الاستراتيجي في جنوب الجزيرة العربية وبحجة أنها دعمت سيطرت الحوثيين على اليمن لمواجهة «القاعدة» هناك على غرار مواجهتها للإرهاب على الأراضي السورية؟!!
كان العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قد أبدى تخوفه في حديث لصحيفة «واشنطن بوست» الأميركية في عام 2004 من وصول حكومة عراقية موالية لإيران إلى السلطة في بغداد ستتعاون مع طهران ودمشق لإنشاء هلال يخضع للنفوذ الشيعي (والحقيقة أنه قال يخضع للنفوذ الفارسي) يمتد إلى لبنان ليخل بالتوازن القائم مع السنة.. وليبرز هلال شيعي (فارسي) في المنطقة سيؤدي إلى تغيرات في خريطة المصالح السياسية والاقتصادية لبعض دول هذه المنطقة.
إنه استشراف مبكر للمستقبل، ولعل ما يحصل الآن في اليمن من سيطرة «الحوثيين» على العاصمة صنعاء وعلى مناطق واسعة من البلاد، يؤكد أن «الهلال الشيعي» أو «الهلال الفارسي» قد قام فعلا، وأن طرفه الأول قد بدأ بالبصرة في العراق، في حين أن طرفه الآخر قد وصل إلى شبوة، واقترب من حضرموت ومأرب وحتى من عدن، مرورا بسوريا التي أصبح قرارها، كما هو قرار بلاد الرافدين، عند الولي الفقيه علي خامنئي، وبلبنان الذي أصبح تحت سيطرة ضاحية بيروت الجنوبية.
وبهذا، فقد أصبحت إيران ليس رقما رئيسيا، وإنما الرقم الرئيسي في هذا المنطقة الذي تعترف به إدارة الرئيس باراك أوباما ولا تعترف بغيره إلا بإسرائيل، ويقينا فإنه إذا صمد نظام بشار الأسد، وإذا تمكن من سحق المعارضة السورية التي عانت ولا تزال تعاني الأمرين من شح الدعم العربي ومن ميوعة الموقف الأميركي ومواقف دول الاتحاد الأوروبي عموما، فإنه على كثير من الدول العربية في مشرق الوطن العربي وفي مغربه أن تتلمس أعناقها، فهي لم تأخذ بحكمة: «أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض» وهي لم تدرك أن «من يتغدى بشقيقك، فسوف يتعشى بك لا محالة»!!
إن هذه مسألة في غاية الأهمية والخطورة. أما المسألة الأخرى التي لا تقل عنها خطورة، فهي أن إيران الشيعية على المذهب الجعفري الاثني عشري قد استطاعت بالترغيب وبالترهيب، ووفقا لسياسة النفس الطويل وتناول الوجبة قضمة بعد قضمة، ابتلاع كل الأجنحة والفرق التي تعتبر شيعية؛ بدءا بالطائفة «العلوية» التي لم تكن في أي يوم من الأيام جزءا من الطائفة الجعفرية الاثني عشرية، وانتهاء بالمذهب الزيدي الذي بات «الحوثيون» يمثلونه وينطقون باسمه.
لم يكن انحياز سوريا لإيران، خلال حرب الثمانية أعوام العراقية – الإيرانية، انحيازا مذهبيا، بل انحيازا سياسيا؛ فالرئيس السوري السابق حافظ الأسد كان في غمرة صراع مصيري مع الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، وكان فرع حزب البعث الذي يحكم باسمه في مواجهة حياة أو موت مع الفرع البعثي العراقي، ولهذا فإنه انحاز للإيرانيين في تلك الحرب المدمرة ليس على أساس طائفي ومذهبي، وإنما على أساس المصالح المشتركة؛ حيث كانت مصلحته تلتقي مع مصلحة الخميني في القضاء على ما كانوا يسمونه «النظام التكريتي» الذي كان يهدد الطرفين.
لقد كانت الأمور على هذا النحو فقط في البدايات، ثم بعد ذلك بدأت المصالح السياسية تأخذ الطابع الطائفي والمذهبي، فتم إلحاق الطائفة العلوية بولاية الفقيه، وقام جميل الأسد، شقيق الرئيس الراحل حافظ الأسد، بدعم مالي إيراني تجاوز كل الحدود، بعمليات «تشييع» واسعة النطاق في مناطق الرقة ودير الزور والحسكة والقامشلي، ويومها أصبح وكيل الإمام الخميني في دمشق محمد حسين اختري هو صاحب القرارات الفعلية في عاصمة الأمويين.
ثم بعد ذلك، ولاستكمال الهلال الشيعي (الهلال الفارسي)، فقد جاء دور المذهب الزيدي الذي كان فقد الحكم في اليمن الشمالي بعد نحو أحد عشر قرنا، في عام 1962، والذي لم تكن له علاقة إطلاقا بالمذهب الجعفري الاثني عشري، وكان يعتبر قبل بروز ظاهرة الحوثيين هذه، مذهبا شافعيا أشعريا، وكان الإمام أبو حنيفة النعمان من مؤيديه ومن مؤيدي وداعمي مؤسسه زيد بن علي (الرضا) بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وهنا، فإن ما لا يعرفه البعض هو أن الشيعة الجعفريين قد أطلق عليهم وصف «الروافض» لأنهم رفضوا مبايعة زيد بن علي بن الحسين مرجعية لهم، ولأن شقيقه محمد «الباقر» قد تجاوزه ونقل المرجعية إلى ابنه جعفر (الصادق) حيث اختار هذا ابنه موسى (الكاظم) خلفا له متجاوزا، كما يقول البعض، ابنه الأكبر إسماعيل الذي سميت باسمه الطائفة الإسماعيلية التي حكمت باسم الدولة الطائفية التي أسسها عبيد الله المهدي بالانطلاق من جنوب تونس من مدينة المهدية التي سميت باسمه لاحقا.
والمهم أن إيران قد أطلقت على أحد ألويتها الطائفية التي دفعت بها أخيرا نحو الحدود الأردنية – السورية اسم «الفاطميون»، وهذا يعني أنها تحاول استكمال ضم ما تبقى مما يسمى «العائلة الشيعية» إلى المذهب الجعفري الاثني عشري بوضع الطائفة الإسماعيلية، التي مركزها مدينة «السلمية» في سوريا، تحت جناحيها على غرار ما حدث مع العلويين والزيديين.