بعد وزير الخارجية الإيراني الظريف ومقالته التصعيدية في «نيويورك تايمز»٬ جاءت الرسالة الثانية من وزير الداخلية الإيراني من دمشق٬ الذي زعم أّن السعودية «اعتدت»٬ نعم اعتدت٬ على السفارات الإيرانية في لبنان وصنعاء وغير لبنان وصنعاء! فالأمر عند إيرانيي ولاية الفقيه والحرس الثوري هو كما قال المثل العربي: «رمْتني بدائها وانسلّت»!
منذ خمس سنواٍت وأكثر٬ لا يمر يوٌم إلاّ ويخرج مسؤوٌل عربي أو مفكر عربي في وسائل الإعلام ليدعو إيران إلى تفاوض وعلاقاتُحْسن جوار. وفي كل مرٍة يدعو فيها عربي لعلاقاٍت طبيعيٍة مع إيران٬ مستصرًخا التاريخ والثقافة والدين والجوار٬ تجيب إيران بالمزيد من التدخلات في كل مكاٍن٬ إضافة للتصريحات التهديدية أو المتشفية٬ مثل القول إن «الثورة» أو «المقاومة» أو «الممانعة» أو «الجمهورية الإسلامية»٬ استولت على أربع عواصم عربية والحبل على الَجّرار!
في عام ٬2006 وعندما كانت دول جوار العراق تجتمع دورًيا في طهران للاتفاق على سياساٍت بشأن الاحتلال الأميركي للبلاد ووسائل إخراجه٬ قال وزير الخارجية الإيراني السابق للمجتمعين: «إذا كنتم تريدون أن يخرج الأميركيون من العراق٬ فلتتوقف الهجماُت عليهم وعلى الشيعة٬ أو سيبقون في ذلك البلد إلى ما لا نهاية»! لكّن الأميركيين٬ ومنذ عام 2008 بدأوا بالتفاوض على الانسحاب٬ وليس مع السلطة العراقية الموالية لإيران فقط؛ بل ومع الإيرانيين. وكما في اتفاق عام ٬2003 – 2002 جرى التوافُق على استخلاف إيران على العراق٬ ومنذ ذلك الحين ما مَّر على العراق يوٌم مثل أيام الناس. قلت لمسؤوٍل إيراني: «في الحرب العالمية الثانية٬ من كانت أكثر الدول عداًء للولايات المتحدة؟»؛ فقال: «اليابان وألمانيا». فقلُت: «وأين هما الآن؟»٬ قال: «في تحالٍُف وثيٍق معها». قلت:
«والسبب أّن الولايات المتحدة بعد الحرب أعادت إعمار البلدين٬ وساعدت في إقامة نظاٍم للحكم الصالح فيهما٬ فنسوا أو تناسوا ملايين القتلى٬ وكّل الخراب٬ وصاروا حلفاء أميركا إلى الأبد٬ فماذا فعلتم أنتم بالعراق؟ بلد أكثريته شيعية٬ وقد سلّم الأميركيون بالبلاد لكم ولأنصاركم منذ عام ٬2004 2003 والعراق بلٌد غنٌّي٬ أفما كان يمكنكم بدلاً من القتل والتخريب والتهجير المساعدة في إقامة نظاٍم للحكم الصالح أو الرشيد٬ فيصبح البلد صديًقا لكم٬ وتكونون المرجعية لدى سائر الفئات٬ بدلاً من هذا الخراب الهائل الذي شهده العراق منذ عام 2003؟ لقد شاركتم الفاسدين في سرقة موارده٬ ونشرتم الطائفية بين أبنائه وفئاته٬ وجعلتم السياسيين العراقيين تابعين لإدارة الجنرال سليماني٬ ثم تشكون الآن من (داعش) دون أن تقاتلوه٬ بل تعهدون بقتاله إلى الأميركيين كما من قبل٬ وأنتم لا تزالون تؤوون
نصف قيادات (القاعدة)٬ وتتهمون العرب بالإرهاب»!
ولا يحسبّن أحد أّن الإيرانيين يراجعون سياساتهم استناًدا إلى النتائج التي تحققت٬ فالسياسات في العراق كانت فاشلة بدليل صعود نجم «داعش»٬ وعودة الأميركيين. لقد كرروا ذلك وبشكٍل أفظع في سوريا٬ التي تهّجر نصف شعبها بمعاونتهم لنظام بشار٬ وبشكٍل مباشر. ومرًة أخرى عندما فشلوا٬ ما التفتوا ولا راجعوا٬ بل تعاونوا مع الروس للتدخل وإنجاز ما لم يمكنهم إنجازه٬ ولا تزال المذابح جاريًة على قدٍم ومساق. وآِخر مآثر ولاية الفقيه مشاركة حسن نصر الله في حصارات التجويع إن لم يمكن الاقتحام والتهجير٬ كما حصل في مضايا وبقين وداريا ودوما والمعضمية٬ وحمص٬ وشمال حلب.. إلخ.
بيد أّن الفشل السوري بدوره٬ ما ثناهم عن إثارة المشكلة باليمن٬ وليس منذ عام ٬2013 بل منذ عام 2009.. فقد ظَّل الإيرانيون٬ بل والأميركيون٬ يجادلون في مدى علاقة الحوثيين بإيران٬ حتى تحرش هؤلاء بالسعودية على الحدود عام ٬2009 مما اضطر المملكة للرد على مدى ثلاثة أشهر. وعندما بدأوا الاستيلاء على المنطقة تلو المنطقة منذ عام ٬2013 قرنوا ذلك بالمظاهرات المسلَّحة على الحدود السعودية كالعادة٬ وتفاقم الأمر بعد الاستيلاء علىَعمران فصنعاء. ومنذ عشرة أشهر لا يمُّر يوٌم إلاّ ويجري فيه الاعتداء على الحدود٬ وتوجيه المدفعية والصواريخ نحو الداخل السعودي. قلُت لأحد أنصار الحوثي الذي كان يطالب بإنهاء الحرب بأي شكل: «لماذا لا تتوقفون عن الاعتداء على الحدود٬ لتروا كيف تكون ردةُ فعل السعودية؟»٬ فأجاب مسرًعا: «أنت تعرف أنه إن توقفنا تتوقف المساعداُت الإيرانية عنا»!
ولماذا ننغمس في المباشر٬ ولدينا دْرسا لبنان وغزة المستمران. قلُت لمسؤول فلسطيني: «لماذا لا تتصالحون بعد خراب البصرة؟»٬ قال: «لأن قراري الحرب والسلم هما بيدي إيران وإسرائيل٬ وليس بأيدينا؛ وهذا على الرغم من أّن مسؤولي حماس بغزة يحبون السلطة مثلهم مثل جماعة أبو مازن بالضفة»!
ما أهداف السياسات الإيرانية؟ هذا ليس سؤالاً خطابًيا كما قد يقال. فالجاري على الأرض أنهم يخربون في كل مكاٍن يدخلون إليه٬ وحتى لو استولوا كما حصل في العراق ولبنان فإّن التخريب لا يتوقف.. فقبل أسبوع عاد العونيون ونواب حزب الله لتهديد سعد الحريري بعدم السماح له بالعودة إلى بيروت! وظلّت الاغتيالات تتوالى في صفوفنا حتى عام 2013 مع أنهم كانوا مسيطرين بمفردهم في الحكومة ومجلس النواب. أما «الإنجاز» الآخر الذي حّققوه٬ إْن كان التخريب والقتلُ يعتبران كذلك٬ فهو اختراق المجتمعات العربية بالتنظيمات المذهبية المسلَّحة٬ وبالاستخبارات التي لا تستخدم دائًما شيعًة٬ بل يمكن أن تستخدم «القاعدة» وتنظيم «داعش» أيًضا. إنما لماذا يحصل ذلك على طول الخّط؟ لا علّة أعرفها لذلك إلاّ الكراهية الدينية والقومية٬ وأن تبقى إيران هي الدولة الوحيدة ذات الشأن في المنطقة٬ فما يحصل عندنا على يد إيران وإسرائيل٬ تحاول إيران مَّدهُ إلى تركيا أيًضا٬ بينما تسارع تركيا لتوثيق العلاقات مع إسرائيل لاتقاء الشرين الروسي والإيراني!
منذ عام 2006 وعندما كانت المملكة العربية السعودية تبسط كفيها للبنان بالدبلوماسية وبمئات ملايين الدولارات لإعادة الإعمار٬ كان حسن نصر الله يخرج علينا يومًيا بخطاب ضد حكومة لبنان٬ وضد المملكة العربية السعودية بحجة أنه لا يقبل غير المال الطاهر! وبعد المال السعودي٬ تدفق عليهم المال القطري٬ وما عاد أحد منهم يتحدث عن الطهارة٬ ليعودوا فيلعنوا العرب جميًعا بعد خلاف قطر مع نظام الأسد.
هناك ثابتان لا ينبغي لعربي أن يعرض لهما بالتساؤل: الحقد الإيراني على الدولة السعودية٬ لأنها هي دولة العرب اليوم. والثابت الآخر: أّن إيران تشّكل جزًءا كبيًرا من المشكلات في العالم العربي٬ ويستحيل أن تكون يوًما جزًءا من الحّل:
وقد ينبت المرعى علىِ دَمن الثرى
وتبقى حزازاُت النفوس كما هيا