بينما كانت المعارك لا تزال مستمرّة في بعض المحاور الحساسة في سوريا، كانت جولة المحادثات الأولى لإنجاز تسوية سياسية تنعقد في الأستانة.
خلافاً للاعتقاد السائد، فإنّ هذه الجولة الأولى لم تكن تهدف فعلياً الى ترتيب تقدّم حاسم في مجال التفاوض السياسي حول التسوية المتوقّعة، ذلك أنّ الهدف الحقيقي كان لاختبار النيّات ورسم الحدود الجدية، خصوصاً للأطراف الدولية التي ترعى المؤتمر، والمقصود بها روسيا وتركيا وايران.
في موازاة ذلك، كان الاختبار الميداني يواكب جسّ النبض الحاصل في أستانة، اختبار حول حدود النفوذ التركي الطامح للسيطرة على منطقة «الباب» والتقدّم الذي ينفّذه الجيش النظامي السوري ومعه حلفاؤه الإيرانيّين، خصوصاً في ريف حلب، للاقتراب من المنطقة التي تسعى تركيا الى ترسيخ نفوذها فيها من خلال سيطرة عسكرية.
وفي ريف دمشق معارك مشابهة، ولو تحت عناوين أخرى. أمّا في أروقة الفندق الذي ضمّ الوفود في الأستانة، فإنّ جسّ النبض أخذ منحى آخر.
صحيح أنّ وفدَي الحكومة السورية والمعارضة تبادلا تنقيح عبارات البنود المطروحة وفقاً لرؤيتهما السياسية، لكنّ الرصد الجدّي كان يتركّز على أداء الفريق الروسي وتحديد مواقعه الجديدة بدقة وتأنٍّ.
فالجميع يُدرك أنّ أمام واشنطن مرحلة زمنية لا بأس بها ستغرق خلالها في ملفاتها الداخلية والنزاع المفتوح على غاربه، أو على الأقل حتى ولو تراجع هذا النزاع فإنّ أولوية إدارة الرئيس دونالد ترامب تبدو للملفات الداخلية، وهو ما بَدا جلياً في أولى القرارات التي اتّخذها.
والواضح أنها ركّزت على الاقتصاد الاميركي والتجارة والوظائف، وهو ما أراده فعليّاً الرئيس الاميركي من قرار الانسحاب من اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ طامحاً بذلك الى توسيع دائرة خَلق فرص وظائفيّة جديدة.
ولذلك اندفع في وضع خطة إنشاء السور الفاصل عن المكسيك موضع التنفيذ، وطلب البدء بخطة تقييد الهجرة الى بلاده، تزامناً مع وضع حملة لترحيل مئات الألوف من المهاجرين غير الشرعيّين في طول البلاد وعرضها.
وحتى ولو لم يكن هناك نزاع سياسي داخلي، فإنّ هذه الملفات وحدها كفيلة بجَعل الادارة الاميركية منشغلة في الواقع الداخلي على حساب الملفات الخارجية، وفي طليعتها الشرق الاوسط. وبالتأكيد فإنّ ذلك لا يعني الاستقالة من دورها ونفوذها العالميَّين، لكنّه يعني حكماً تراجع الاهتمام الاميركي على الأقل للفترة المقبلة.
وانطلاقاً من ذلك، تندفع روسيا في ترتيب التسوية في سوريا متّكئة على تنسيق «خلفي» مع واشنطن يَحفظ مصالح الأخيرة وعلى دور مميّز منحتها إيّاه الظروف والأدوار الناجحة التي خاضتها طوال العامين الماضيين وتخلّلها دخول عسكري مباشر لقواتها في سوريا هو الأوّل لها في منطقة الشرق الاوسط.
لكنّ الدور الروسي العسكري، والذي شهد جوانب غامضة وساهم في إسقاط حلب بعد طول تردّد، مُعلناً بذلك نهاية الحرب العسكرية، هذا الدور قد لا يبقى يحمل الاندفاع نفسه وفق الاتجاه الذي سادَ خلال المعارك العسكرية أو هذا ما تأمله واشنطن.
روسيا فرَضت سيطرتها على المنطقة الساحلية لسوريا وعلى المحاور الاساسية في الداخل، وكان لافتاً ما أعلنه وزير خارجيتها بأنه لولا تدخّل جيش بلاده لكانت دمشق سقطت في غضون أسبوعين، او بما معناه نحن أصحاب الفضل الأساس في قلب موازين القوى.
واشنطن تأمل بدور روسي يؤدّي الى استيعاب توسّع النفوذ الايراني في اتجاه البحر الابيض المتوسط، وبالتالي الى إبقائه بعيداً عن المياه الدافئة وذلك بسبب الموقع الممتاز لها في المعادلة الجديدة للشرق الاوسط.
وفي أستانة، لا بدّ أنّ الوفد الايراني حاول التمعّن كثيراً في المواقف الروسية وسَبر أغوار حقيقة الموقع الجديد لروسيا، أو بعبارة أخرى اكتشاف مدى التعاون الحاصل بين روسيا وتركيا.
وليست ايران وحدها المهتمّة بهذا المجال، ذلك أنّ دول الخليج العربي تراقب بانزعاج سَعي تركيا إلى اختصار مواقع المعارضة بيدها لوحدها، وقيل إنّ كلاماً كثيراً تردَّد في الأروقة حول «الغدر التركي» بعد خسارة سوريا بسبب تحويلها المعارضة السلمية معارضة مسلّحة.
لذلك، بدأت إيران تميل الى استعادة علاقتها بدول الخليج في ظل كلام ايراني عن إمكانية تحقيق تسويات أخرى بعدما نجح الحوار الإيراني – الخليجي في إنتاج تسوية في لبنان. لذلك، تبدو الزيارة الكويتية إلى إيران معبّرة جداً، خصوصاً أنّ الكويت أدّت دوراً في السابق في محاولة التقريب بين إيران ودول الخليج.
لكن مع اندفاع تركيا في دورها الجديد، ضاقَ الخناق أكثر على «داعش» و«النصرة» أيضاً. وقيادة «داعش» التي تعيش مرحلة السعي إلى إنهاء «دولتها» باشرت في الفترة الاخيرة هجومها المضاد من خلال تكثيف عملياتها الارهابية، حيث شكلت الساحة التركية هدفاً أساسياً نظراً للانعطافة التركية، إضافة الى الاهتزاز الذي تعيشه مؤسّساتها الامنية عقب عمليات التطهير.
أضف الى ذلك حجم الخروق التي حقّقها تنظيم «داعش» داخل المؤسسات الامنية التركية نتيجة التعاون الذي رافَق سنوات الحرب في سوريا. لكنّ تركيا ليست الساحة الوحيدة المستهدفة، بل أيّ مكان يصل اليه «داعش»، ومنها الساحة اللبنانية.
صحيح أنّ إحباط الجيش اللبناني وفرع المعلومات عملية انتحارية في مقهى «كوستا» في الحمراء رفعَ منسوب القلق لدى اللبنانيين، لكنّ المخاوف لدى السلطات الأمنية ظهرت قبل ذلك بأسابيع مع رصد ارتفاع نشاط الارهابيين واستيقاظ عدد من الخلايا النائمة التي اعتُقل كثير منها.
يومها، تحدّث هؤلاء عن أوامر تلقّوها لتنفيذ عمليات ارهابية على الساحة اللبنانية. لكنّ وَقعَ عملية «كوستا» كان كبيراً وظاهراً للعيان، ما أدّى الى ردة فعل قَلِقة لدى اللبنانيين، لكنها في الحقيقة كانت واحدة ضمن سلسلة.
وإحباط عملية شارع الحمراء التي لا تزال بعض جوانبها غامضة وبنحو مقصود بهدف عدم كشف طريقة اكتشافها وحماية الخرق الذي تتمتع به أجهزة الامن اللبنانية داخل التنظيمات الارهابية، هذه العملية التي كانت على جانب كبير من المخاطرة كانت تهدف أيضاً الى اعتقال الانتحاري حياً بغية الاستفادة من معلوماته.
وبالفعل، فإنّ ما تَسرّب من التحقيقات معه كان كافياً لتبيان مدى الخطر الذي يُحدق بالساحة اللبنانية: «لقد تلقيتُ أوامري مباشرة من الرقة»، حسبما اعترف الارهابي، مجدداً القول إنّ الهدف هو قتل اكبر عدد من المواطنين. وهو ما يعني أنّ أوامر أخرى مشابهة أعطيَت لانتحاريّين آخرين.
وبما أنّ تفخيخ السيارات وتفجيرها بات أمراً صعباً نتيجة الجهود التي بذلتها الأجهزة الأمنية طوال المراحل الماضية، فإنّ المخاوف تتركز على انتحاريّين بأحزمة ناسفة وانغماسيّين يقتحمون مَلاهيَ وأماكن يحتشد فيها الناس ويطلقون النار عليهم، تماماً كما حصل في ملهى «رينا» في اسطنبول، إضافة إلى عمليات صَدم، وهذه قابلة للحصول في أيّ زمان ومكان نتيجة سهولة تنفيذها، وهو ما يَستوجب أقصى درجات اليقظة والحذر في المرحلة المقبلة.