Site icon IMLebanon

مرونة إيرانية وإسرائيلية

 

بخلاف الإنطباع الذي كان سائداً بأنّ الوقت الفاصل عن دخول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب إلى مكتبه في البيت الأبيض سيكون «وقتاً ميتاً»، وهو ما يعني أنّ أياً من أطراف النزاع في الشرق الأوسط سيُقدم على الدخول في تسوية سياسية، لأنّ لا أحد يرغب في إعطاء ورقة لإدارة على أهبة الرحيل، إلّا أنّ التطورات تُظهر أنّ احتمالات إنجاز التسوية، خصوصاً في لبنان، باتت حظوظها مرتفعة. ولهذا الأمر حسابات عدة.

بداية، فإنّ ترامب يبدو مستعجلاً لاستكمال التعيينات في إدارته المقبلة وإنهائها، حتى قبل أن يقسم اليمين الدستورية. وهو دشّن هذه التعيينات بمنح سوزي وايلز منصب كبيرة موظفي البيت الأبيض. وهي بداية مختلفة عن تلك التي شهدها انتخابه رئيساً للمرّة الأولى نهاية العام 2016. يومها ظهرت مؤشرات الفوضى، والتي استمرت طوال ولايته، حيث عمد إلى إقالة عدد من رجال إدارته، فتناوبت على الموقع الواحد أسماء عدة. وكان واضحاً أنّ ترامب كان غير مستعد للتجربة الرئاسية. أضف إلى ذلك، أنّه وَفَد إليها من خارج المفهوم السياسي القائم. ولذلك ربما يميل ترامب وبقوة لأن يكون المعيار الأول للأسماء التي سينتقيها، الولاء التام أو الأعمى له. وهو ما يفتح الباب على تساؤلات عدة حول حقيقة القرارات التي ينوي اتخاذها، والتي يرفض مسبقاً أي نقاش فيها بل فقط الطاعة والتنفيذ. صحيح أنّ اختيار وايلز جاء وقعه جيداً، كونها تنتمي إلى نادي «المؤسسات». لكن مبعث القلق جاء بسبب تلويح ترامب سابقاً بنيته تصفية حساباته مع خصومه، وأنّه سيمارس الديكتاتورية في اليوم الأول فقط من ولايته. كما أنّه كان ألمح إلى نيته البقاء في البيت الأبيض «والذي كان الأحرى بي ألّا أغادره بعد انتخابات 2020». وربما هذا ما دفع عدداً من العواصم الأوروبية إلى طرح السؤال عمّا إذا كان العالم مستعداً لترامب بلا قيود، والمقصود هنا سيطرة الجمهوريين على مجلسي النواب والشيوخ.

 

إلّا أنّه وبخلاف ما ساد «اليوم التالي» لانتخابات 2020، فإنّ العاصمة الأميركية دخلت في أجواء انتقال سلس للسلطة، على رغم من حال الصدمة التي يشهدها الحزب الديموقراطي، وإشارات التخبّط الداخلي إثر الهزيمة الساحقة التي مُني بها.

فيوم الأربعاء المقبل سيلتقي بايدن بترامب في البيت الأبيض للبحث في انتقال السلطة، في وقت يجري تشكيل المجموعة الجمهورية التي ستتسلّم السلطة من إدارة بايدن. ولاجتماع الأربعاء أهمية خاصة، ليس فقط لأنه لقاء العمل الأول بين الرئيسين اللدودين، بل أيضاً لأنّه سيجري بحث في الملفات الخارجية وفي طليعتها خفايا المفاوضات القائمة حول الحرب السائدة في الشرق الأوسط. وربما لذلك لم يحدّد بعد مستشار بايدن آموس هوكشتاين موعد زيارته المنتظرة إلى إسرائيل ولبنان كما هو جاري التحضير لها.

لكن هوكشتاين، والذي تواصل لبنانياً مع الرئيسين نبيه بري ونجيب ميقاتي، تحدث عن معطيات إيجابية وجدّية حول إمكانية التوصل لإعلان وقف لإطلاق النار في لبنان في الأيام المقبلة. ومن الطبيعي أن يكون تفاؤل الموفد الأميركي مستنداً الى أجواء إقليمية مؤاتية، والمقصود هنا موقفي إيران وإسرائيل.

وخلال الأيام القليلة الماضية وتحديداً بعد «صدمة» الفوز الكاسح لترامب، ظهرت إشارات إيرانية توحي بالمرونة والاستعداد لفتح صفحة جديدة مع ترامب. ذلك أنّ الهامش المفتوح أمام طهران هو إما المواجهة المرنة في التفاوض أو المواجهة المحفوفة بالمخاطر مع رجل كان مراسه صعباً خلال ولايته الأولى.

 

ووفق أحد أبرز صقور إدارة جورج دبليو بوش والخبير في شؤون الشرق الأوسط إليوت أبرامز، فإنّ أفضل طريقة لتوقّع ما سيفعله ترامب هو باسترجاع ما فعله سابقاً. وتابع أبرامز: «سيعني ذلك مزيداً من الدعم لإسرائيل وأقصى التشدّد تجاه إيران».

وترامب نفسه كان أعلن سابقاً أنّه سيمارس أقصى الضغوط الإقتصادية على إيران، والتشدّد في منعها من تهريب نفطها وبيعه في السوق السوداء لدفعها لقطع تواصلها مع «أذرعها» في المنطقة، وأخذها إلى اتفاق نووي جديد يضمن هذا الأمر. وفي الوقت نفسه باشرت واشنطن في إبراز الأخبار عن تخطيط إيراني لاغتيال ترامب، وهو ما يعني تسليط الضوء عليها بأنّها خطر أمني على الإستقرار الدولي.

لأجل ذلك قد تكون طهران وجدت أنّ الوسيلة الفضلى هي باستباق دخول ترامب إلى البيت الأبيض وإنجاز اتفاق وقف النار قبل رحيل إدارة بايدن.

ولذلك، تلاحقت الإشارات الإيرانية المرنة والمعبّرة. فمستشار المرشد علي لاريجاني دعا الى تنشيط الديبلوماسية في الوقت الحالي على مستوى عالٍ، كون النزاع هو على مستوى استراتيجي. وفي تعليقه على فوز ترامب أجاب لاريجاني بكثير من الحنكة، بأنّه يجب أن ننتظر قليلاً لنرى كيف ستكون الأمور، لأنّه في المرّة السابقة لم يتصّرف بحكمة. كذلك دعت إيران على لسان مسؤوليها ومن بينهم وزير الخارجية، واشنطن، إلى تجنّب سياسة الضغوط القصوى وبناء الثقة بدل ذلك، والإعلان أنّ قرار طهران ثابت ونهائي بعدم استخدام النووي للأغراض العسكرية، ما يوحي بأنّ هامش المناورة للمرحلة المقبلة أصبح ضيّقاً.

وهذا المناخ أوحى بأنّ طهران المشهود لها بالمرونة السياسية ستذهب لاستباق العاصفة بهدف احتوائها عبر التجاوب مع الطروحات التسووية المطروحة في لبنان والمنطقة.

 

وعلى الضفة الأخرى، بدا أنّ الإبتهاج الإسرائيلي بنجاح ترامب عاد وهدأ، وظهر نتنياهو للمرّة الأولى أكثر واقعية ومرونة. ذلك أنّه يدرك تماماً صعوبة معاكسة ترامب في بداية ولايته، والذي كان أعلن مرّات عدة بأنّه يريد وقف حمام الدم قبل دخوله مكتبه البيضاوي، إلى درجة أنّ بعض المراقبين يعتقدون أنّ نتنياهو ربما كان يفضّل في أعماقه فوز الديموقراطيين، حيث كان قادراً على التلاعب بهم والتحايل عليهم.

وجاءت الإشارات الإسرائيلية لتعكس بدورها المرونة المطلوبة. فالقناة 13 الإسرائيلية أشارت في خبر موحى به، بأنّ 90% من العمليات البرية انتهت. أما القناة 12 فذكرت أنّ إسرائيل تدرس وقفاً للنار ولو محدود في لبنان، لتحاشي صدور قرار عن مجلس الأمن ضدّها. وبدورها أوردت صحيفة «يديعوت أحرونوت» نقلاً عن مصادر سياسية، بأنّه تمّ إقرار تقدّم في المفاوضات بين إسرائيل ولبنان للتوصل لوقف للنار. إلّا أنّ الإشارة الأبرز جاءت من نتنياهو نفسه، حين قال بأنّه حان الوقت لقطف ثمار ما اعتبره هزيمة «حزب الله». وهو بذلك كان يقصد أنّ الوقت حان للتسوية السياسية.

ووفق هذه الأجواء سيناقش بايدن وترامب ملف المنطقة، مع ميل واضح لدى الثاني بإقفال ملف الحرب قبل دخوله المكتب البيضاوي. وهذا ما يفسّر «تفاؤل» هوكشتاين على رغم من انشغاله بتوضيب أغراضه قبل انتقاله إلى عمله الجديد في الخليج. ولذلك أيضاً يستعد لزيارة تل أبيب وثم بيروت، من دون تحديد موعد الزيارة وفي انتظار نتائج لقاء بايدن وترامب. وبات معلوماً أنّ خريطة طريق هوكشتاين تتضمن ثلاث مراحل، تبدأ من وقف للنار وتطبيق القرار 1701، ومن ثم انتخابات رئاسية وتشكيل حكومة ستتولّى الإشراف على المرحلة الثالثة، والتي تتضمن ضبط الحدود والمعابر. والأهم أن لا يظهر كل الإتفاق مسبقاً ودفعة واحدة لكي لا يوظف في الحملات السياسية خصوصاً في الداخل اللبناني. وكذلك أن يبقى قرار التمديد لقائد الجيش قائماً بمعزل عن نجاح الإتفاق أو عدمه.

 

وكان ملاحظاً خلال الأيام الماضية، أنّ المواجهات البرية تراجعت بنحو ملحوظ في الجنوب في مقابل استخدام قصف جوي إسرائيلي عنيف ووفق قنابل بأنواع جديدة، وفي المقابل استخدام «حزب الله» لصواريخ جديدة وكبيرة واستهدافه عمقاً إسرائيلياً جديداً وصل إلى تخوم مطار بن غوريون للمرّة الأولى من لبنان.

المراقبون يعتقدون بأنّ خريطة الطريق الموضوعة ستدفع بإيران إلى خارج الساحات اللبنانية والفلسطينية ولاحقاً السورية، وأنّ الترتيبات الجارية لاتفاق نووي جديد كفيلة بضمان ذلك. كذلك فإنّ الكلفة الهائلة لإعادة إعمار لبنان وفلسطين، والتي ستضمن عدم إعادة بناء بنية تحتية حربية، كل ذلك سيؤشر لانعطافة كبرى ضمن نطاق إعادة رسم خريطة نفوذ سياسية جديدة في الشرق الأوسط.

أما البعض الآخر فيبدو أكثر تشاؤماً ربما بسبب دروس الماضي وتجاربه، ويعتقد أنّ إسرائيل ستنتهز الفرص للاستمرار في سياسة «طرد» الفلسطينيين، بدليل ما قاله وزير الأمن إيتمار بن غفير في الكنيست، بأنّه من دون ضغط الديموقراطيين أصبح في إمكان إسرائيل ضمّ الضفة الغربية، وأنّ هذا هو وقت السيادة والإنتصار المطلق. ويعتقد هؤلاء أيضاً أنّ إيران بدورها لن تستسلم، وهي التي ذاقت طعم الوصول إلى الشاطئ الشرقي للبحر المتوسط، وبالتالي ستراهن كما عادتها على عامل الوقت، وتذهب في اتجاه حرب استنزاف بطيئة وسرّية في انتظار تحولات جديدة، وهو الأسلوب الذي تتقنه جيداً.

أيهما يكون محقاً؟ لا أحد يستطيع الجزم.