.. وأيّ مفارقة: عمّال إيران في نواحينا يستحضرون ذكرى حرب تموز العام 2006 ومعها كل عدّة يوم القيامة، فيما بنيامين نتنياهو يستكشف في موسكو مدى جديّة وواقعية «الوساطة» الروسية بين إسرائيل وإيران.. ولا ينسى في المناسبة، تسريب خبرية «عدم تهديد» بقايا سلطة الرئيس السابق بشّار الأسد، إذا تمّ تحجيم وإبعاد «التهديد الإيراني» عن الحدود الجنوبية السورية.
والأمران، «الوساطة» من جهة و«الإبعاد والتحجيم» من جهة متمّمان في الواقع لبعضهما بعضاً وأن بدَيا متناقضَين. بحيث أن تثبيت الأسد برغم معرفة إسرائيل مدى التهتّك الذي بلغته أحواله وقوّته و«سلطاته» وقدراته، يعني في زبدة الكلام والحساب عدم القطع النهائي والحاسم مع طهران واستثماراتها المديدة فيه وفي سوريا.. وإشارة يمكن البناء عليها وتطويرها، إلى أنّ أمور الدنيا بين الطرفين ليست على حافة يوم القيامة! ولا حتى في الطريق إليه برغم الأناشيد التي تُطلق من على الجانبين.
أي أن «التطمينات» الإسرائيلية في شأن الأسد، تبدو موجّهة إلى طهران أكثر من موسكو باعتبار أن لا شيء (فعلياً لا شيء!) يمكنه أن يؤثّر سلباً في علاقات الطرفَين «المتينة» والتي لا يترك فلاديمير بوتين، مناسبة إلا ويُشدّد على متانتها. ويُبدي ويُظهر كل استعداد لتوثيق عراها أكثر فأكثر.. أي بمعنى أوضح، إذا ارتأت القيادة الروسية مثلاً أن موجبات تأمين استقرار معقول نسبياً في سوريا تستدعي تغيير الديكور والإتيان بـ«رئيس» آخر فلا بأس! لكن إذا ارتأت إسرائيل أن ذلك سيعني «هزيمة» تامّة ومنجزة (ولا داعي لها!) لإيران، فلا بأس أيضاً.. بانتظار يوم آخر! المهم في الأصل، أن علاقة الطرفين أبدى وأولى من أي معطى آخر، فكيف الحال وهما يتمتعان بوضعية مريحة لكليهما. وترفها فائض وفضفاض! ولا إمكانية فعلية ولا رغبة عند أحد لتعكير تفاصيلها وعمومياتها: لا «التهديد» الإيراني ممكن وجدّي ومطلوب! ولا الاعتراض الأميركي وارد أو محتمَل بل العكس! ولا التركي مأزوم أو متضرّر بعد أن ارتاح مبدئياً وميدانياً من الهمّ الكردي أقلّه من الجهة السورية! أي في الإجمال لا توجد «قضية» سلبية بينهما، بل «قضايا» إيجابية كثيرة وثقيلة وراسخة!
معنى ذلك، أن تجد موسكو نفسها في وضع «الوسيط» الممكن والقادر بين الإيرانيين والإسرائيليين: وهي التي أمكنها ميدانياً و«فضائياً» في سوريا صناعة معجزة صغيرة تمثّلت بالقتال مع الإيرانيين وأتباعهم ضد الأكثرية السورية المعارضة، و«التنسيق» مع الإسرائيليين في الوقت نفسه ومن دون ضوابط بما في ذلك التفرّج على عشرات الغارات الجوية المدمّرة للطيران الإسرائيلي على مواقع الإيرانيين وأتباعهم!
المستجدّ في الأمر، هو أنّ إيران على السمع! وتعرف أنّ خياراتها في سوريا ضاقت كثيراً. وهي براغماتية مشهودة تتراجع أمام الأقوى! وتُظهر «واقعية» في ساعة الجدّ! وليس أدلّ على ذلك من إظهار الالتزام التام (التام!) بشروط «معركة» درعا بداية، وبالابتعاد عن الحدود الجنوبية تالياً.. وإرسال علي أكبر ولايتي أحد مستشاري «المرشد» إلى موسكو من أجل «حضور» مباريات كأس العالم! سوى أنّ ذلك تزامن «صدفة» مع وجود نتنياهو هناك.. وللغاية ذاتها!
المهم الذي يعنينا هو أنّ إيران في مكان، وأتباعها في نواحينا، في مكان آخر! حتى صحّت الاستعارة من واقع «الحركة الوطنية» اللبنانية أيام زمان لإنزاله على الواقع الإيراني في هذه الأيام: تدهورت السيّارة لكن الراديو بقي شغّالاً!! طهران على طريق التفاوض مع إسرائيل في موسكو. و«مذيعوها» في بيروت يتحّدثون عن «احتلالها».. هكذا دفعة واحدة!
علي نون