«من كل عقله»… نتنياهو يوجّه رسالة إلى اللبنانيين يدعوهم فيها إلى استعادة لبنان «جوهرة الشرق»، ويحضّهم على التخلص من السبب المباشر لذلك ألَا وهو «حزب الله»، وصولاً إلى «الازدهار». نسيَ أولاً هذا الطاووس الأخرق أن «حزب الله» وُلِد ونشأ و«ترعرع» وتطوّر من الرصاص إلى العبوات إلى الصواريخ بفضل وجود جيشه المحتلّ على أرض لبنان. ونسي ثانياً أن «جوهرة الشرق» سرقتها طبقة سياسية من كل الطوائف «تضافرت» جهودها على مدى خمسين عاماً فحلَبَت الدولة بكافة قطاعاتها حتى أيبسَت الضروع. ونسي أن تلك الطبقة السياسية سطَت أخيراً لا آخِراً على كل مدّخرات اللبنانيين المادية، ومعها المعنوية، من دون استثناء فأصبح اللبناني «على الأرض يا حكَم». ولم تكن لحزب لله يدٌ في كل هذا. لكنّ نتنياهو يريد أن يبدو حريصاً على لبنان واللبنانيين فقال ما قال على قاعدة «إني بلّغت» مع فارق القيمة والرسالة والعظَمة بين قائل «اللهم اشهد إني بلّغت» في تاريخ الإسلام، وهذا الصهيوني الممتلئ سُمّاً!
وفي السلم والحرب كل شيء أميركي يفوق الوصف. هناك ثمانية مليارات ونصف مليار دولار قدّمتها الولايات المتحدة لنتنياهو «هدية» لنجاحه في مهامّه التدميرية بين غزة ولبنان، رغم مناشدات شخصيات عالية فيها بوقف إمداده بالسلاح والمساعدات. تردّد في الإعلام قبل ذلك عن أن الرئيس الأميركي بايدن يفكّر في وقف شحنات الصواريخ والأسلحة الفتاكة لإسرائيل وبعضها محرّم دولياً، لكنْ كان ذلك ذرّاً للرماد في العيون الدولية التي كانت تستغرب الصمت الأميركي عن كل تجاوزات الدولة العِبرية.
فرنسا تحاول أن تتجنّب الغوص أكثر في المستنقع الذي وضع فيه نتنياهو العالَم كله. فبعدما أرسلت سفناً حربية لمساعدة إسرائيل بعد زيارة نتنياهو لها إثْر «طوفان الأقصى»، هي الآن في مرحلة متقدّمة من الاعتراض العلني على ما تفعله الدولة العِبرية من ارتكابات خارجة عن أي اعتبار إنساني أو حتى حربي. تصريح ماكرون بأنه ينبغي «وقف إرسال السلاح إلى إسرائيل»، لم يتأخّر نتنياهو في الرد عليه بأننا «سننتصر بمساعدتك أو من دونها» من دون أن يتورّع عن وصْمه «بالعار».
الموقف البريطاني هو الآخر ليس في وارد الانقياد لنتنياهو، فيلعب على الكلام ويدعو إلى التهدئة وإلى عدم المبالغة في الردود، مع أن «المساعدات» العسكرية لم تتوقف.
الموقف الأميركي ما يزال هو الأوقح دوليّاً. أوقح وأعجب من العجب. ثمانية مليارات ونصف مليار دولار لإسرائيل من جهة، ومن جهة ثانية مُطالَبتها بالتفكير في «حسابات دقيقة» قد تؤتي نتائج وخيمة. أما الجهة الثالثة فهي التنسيق على أعلى مستوى سياسياً وعسكرياً وأغلب الخطط العدوانية لنتنياهو على غزة ولبنان تمرّ على مسامع الأميركيين قبل تنفيذها، وتوثَّق لديهم. ومهمة الإدارة الأميركية هي نفي علمها قبل «الحادث» ثم تأييد «الحادث» ودعمها له. وتبدو تلك الإدارة مشنوقة بحَبْل الانتخابات الرئاسية فكأنه ممنوع على أحد في العالم أن يفكّر أو أن يقول أو أن يعمل إلّا كصدى لما يفكّر ويقول ويعمل به المسؤولون الإسرائيليون.
هل سيستمر الرئيس الفرنسي على موقفه، أم سيضطر بتدخّل المؤسسات اليهودية معه إلى التراجع؟ أغلب الظن أنه سيتراجع، فالثور الإسرائيلي الهائج في كل الاتجاهات لن يترك لأي دولة فاعلة ومؤثرة أن تتحرك بما لا يناسبه. والميدان هو الذي سيفرض نفسه لا غير.
بعض دول العالَمين العربي والعربي، تنظر إلى الميدان الآتي لا محالة بين إيران وإسرائيل وتشجع الحرب ضمنياً رغم ارتجافها خوفاً من نتائجه التي لن تترك بقعة في الأرض من دون أن تتأثر به سلباً وعلى مستويات عدّة. فنتنياهو يريد استعادة قدرة بلده على منع تحدّيات إيران وصواريخها، وإيران تريد أن تكمل ما بدأته من المناعة ليس في محور المقاومة فحسب، بل على أرضها. لا نتنياهو مستعد للتراجع عن ردّ الضربة. ولا إيران مستعدة للتراجع عن الردّ على الردّ. المعركة قائمة، لكنّ السؤال هو هل تكون حرباً شاملة لكل المشرق العربي أم حرباً محدودة لأيام؟ في اعتقاد أكثر المراقبين شرقاً وغرباً أن الحرب «المحدودة» ينبغي أن تحصل، وأن يُحصّل كل طرف ما يستطيع خلالها، ذلك أن الحراك الدولي الجديّ والحاسم، الأميركي وغيره، لن يتزحزح من مكانه قبل أن تصل التداعيات الخَرابيّة إليه. وبقدر ما تتأثر دول العالم، ستكون الحركة. فإيران استعدّت تماماً وحضّرَت نفسها مع الدول التي يمكن أن تساعدها خلف الستار أو أمامه في الحرب، وهيّأت شعبها بحيث تقول التقارير الواردة منها أنه لم يكن الشعب الإيراني موحّداً خلف قيادته بمثل ما هو اليوم، منذ الالتفاف الشعبي العارم على الثورة. دخل الشعب الإيراني ثورته متخفّفاً من أي اعتبارات وعواقب إلّا انتظار لحظة الحرية، واليوم يدخل الحرب مع إسرائيل بالتخفّف نفسه من أي عواقب. فالمسألة كرامةٌ وطنية. والعداء الإسرائيلي الإيراني الذي صمَد وتطوّر واختمر أربعين عاماً، مع بعض محطات الضرب تحت الزنار، سينفجر دفعة واحدة. والتهديدات بالإعادة إلى العصر الحجري، متبادَلة وحقيقية هذه المرّة. ولن يكون للعالم موقف واضح وصريح مما يجري إلّا في وضعية انفجار تلك الحرب، وربما على أوسع نطاق. وحال إيران اليوم يشرحها قول الإمام علي «إذا خِفت أمراً، فقَعْ فيه، فإن شدّة توقّيه أعظم مما فيه».
الدوَل العربية التي حافظت على «حيادها» حتى الآن معتبرةً أن كل ما يجري هو قتال بين إسرائيل وأذرع إيران في المنطقة، ماذا سيكون موقفها حين تصبح سماؤها ملعباً للطائرات الإسرائيلية والإيرانية وصواريخها؟ وماذا سيكون مصير القواعد العسكرية الأميركية فيها؟ وكيف ستتصرّف تجاه قضية النفط العربي والعالمي التي ستُدخَل عنوةً في هذا الصراع غير المسبوق؟ وهناك من يصل أبعد في توقعاته فيسأل: ماذا سيكون موقف إيران تجاه بعض البلدان العربية التي تكتشف إيران أنها تقدّم خدمات لوجستية لإسرائيل لضرب منشآتها وأراضيها؟ هل ستتغاضى عن ذلك أم ستهاجم منشآتها، وعُمرانها؟
هناك خشية كبرى لدى المراقبين الحياديين الذين ينظرون إلى ما يجري من زاوية مصالح الدوَل من أن تتفلّت المجريات من السيطرة، ما سيجبر القوى الدولية الأساسية وهي ترى المصالح الكبرى والاستراتيجية لها تعاني الانهيار شبه المطلَق، على التحرك باتجاه وقف إطلاق النار على كل الجبهات دفعة واحدة. ويقولون إن التحرك العالمي قبل «حرب إيران وإسرائيل» شيء، والتحرك بعده شيء آخر. قبل تلك الحرب ربما كان الحراك العالمي ما برحَ متأثراً بهيجان نتنياهو الذي لا يزال مستمراً منذ «طوفان الأقصى» داخل عقدةِ تَخَلْخُل النظرة اليهودية إلى «وجود إسرائيل»، ومحاولة رد الاعتبار بأقصى الدم والدمار والمآسي على العرب والمسلمين الذين يناصبون بلده العداء، لكن بعد حصول الحرب، ووصول نتائجها الدراماتيكية الفورية إلى دوَل عربية كانت تعتقد أنها بعيدة عن مرمى النار، بالإضافة إلى ما لم تَنتَظِر دول العالم من المفاجآت الاقتصادية والعسكرية المنعكِسة عليها، سيُبدّل المشهد كلياً وسيجد الجميع أنفسَهم في مغطس دموي لن يجدوا فرصة ليتحلّلوا منه، إلّا بالعمل على إطفاء لهيبه، لأنه سيقلب الحال المأساوية الراهنة إلى حال الكارثة التاريخية.
تسمّيها إسرائيل «حرب وجود». وغزة تعتبرها كذلك، و«حزب الله» يخوض معاركه الحدودية والداخلية بالعنوان ذاته، وها هي إسرائيل تدفع إيران إلى «حرب الوجود» بلا هوادة. وتريد ضرب منصّات الصواريخ الحديثة التي صنعتها إيران وتجهّزت بها لهذا الموعد. لكنْ بالتجربة الميدانية «المحلية».. إذا لم يستطع جيشها التكنولوجي ضرب المنصات الموزّعة في جنوب لبنان مع وجود طائرات التجسّس بالمئات بل الآلاف ولا تغادر الفضاء، فكيف بها بضرب المنصات في إيران؟ هل سيتم ذلك بمساعدة أميركية؟ طبعاً.. لكنْ لو كان الجيش الأميركي هو الآخر قادراً على كشف المنصّات فلماذا حتى الآن لم يكشف المنصّات في لبنان بأقماره الصناعية التي ترصد النمل في ثقوب التراب، ليقدّمها من ضمن «هداياه» لإسرائيل؟ وإذا كانت صواريخ المقاومة تحت الأرض وتحيّر العالم في كيفية إطلاقها واختفائها، هل الصواريخ الإيرانية فوق الأرض على قاعدة «شوفيني يا منيرة»؟ كل التحقيقات الميدانية التي أجرتها صحف ومجلات أجنبية حسمَت بأن كل ما هو استراتيجي في إيران بات منذ سنوات طويلة تحت الأرض. والصواريخ التي تخرق التحصينات مأخوذة بعين الاعتبار منذ ضَرْبها على الكهوف التي كان يقيم فيها بن لادن ورفاقه.
لقد عرف نتنياهو كيف ينقل مجتمعه من وضعيةٍ إلى وضعية أُخرى. والسبب هو أن الشارع الإسرائيلي خارج غلاف غزّة لم يُضرَب. انشغلت المقاومة الغزاوية بالدفاع المباشَر عن مدينتها، مع بعض الصواريخ التي كانت تُطلَق إلى أبعد من ذلك أحياناً. أما اليوم فصواريخ حزب لله تنزل على كل المدن اليهودية وشوارعها وبناياتها، وتقطع أنفاسَ الناس هناك بعدم انقطاعها عن متابَعة الضرب، وهذا ما يعوَّل عليه في بلبلة المجتمع خصوصاً مع توابيت الجنود المقتولين التي بدأت طلائعها تصل من الجبهة ومن مراكز تجمع الجنود المستعدين في شمال فلسطين المحتلة لدخول المعركة، ويُنتَظر أن تكبر مع كبَر محاولات التقدم.
على أن ما يُعتبَر نجاحاً استثنائياً لسياسة نتنياهو هو الطوق الأمني المفروض على نشرِ الإعلام أي ضربات صاروخية، وأي أنباء عن قتلى وجرحى إلّا ما يريده هو وبالصياغة الصحفية التي تخفي أكثر مما تُظهر، فالجرحى «إصابات» والقتلى «في حال حرجة» والتدمير «غير مؤذٍ» والفشل في الجبهات «محاولات تكتيكية».
وفي المقابل، من التغيّرات الفعلية في المجتمع الفلسطيني أن العمليات الفدائية تتحرك في اتجاهات أعمق. عمليةٌ في قلب تل أبيب قتلَت وجرحت أربعة عشر إسرائيلياً، وعملية في بئر السبع، بعد أربعة أيام، قتلَت وجرحَت رقماً موازياً، والفدائي الثاني فلسطيني يحمل الجنسية الإسرائيلية، ما يدل على أن انتفاضة السكاكين تحوّلت انتفاضة سلاح حربي رشاش، وفي قلب المدن الإسرائيلية، حيثُ سيؤدي ذلك في حال ارتفاع وتيرته إلى «دفْش» الشارع الإسرائيلي إلى الصراخ. فقَتْل شخص بالسكين يختلف عن قتل عشرة بسلاح حربي، وكذلك الأصداء المرافقة له، لا سيّما وإن عسكرة المجتمع الإسرائيلي وتسليمه سلاحاً رشاشاً بنسبة خمسة رشاشات للفرد (كما تقول تقارير) ستفسح في المجال للفلسطيني بشراء السلاح من «سُوق» من اليهود أنفسِهم، فكيف إذا كان الفلسطيني يحمل الجنسية اليهودية ويأتيه السلاح بكل بساطة، ليستخدمه في غير هوى المسؤولين الإسرائيليين؟
يقول إيهود أولمرت البارحة: «ندفع أثماناً من بينها ما لا نستطيع الكلام عنه». سيتكلّمون عنه في القريب العاجل بعد أن يضيق عليهم الصبر على نتنياهو ومشاريعه، ويزداد القتلى والجرحى ويضيع الأمن النفسي، ولن ينزعج من ذلك أحد أكثر من «الفينيقيين اللبنانيين» المنتظرين من أخصامهم في البلد (أعداؤهم فعلياً!) رفْعَ الراية البيضاء، و«الجَميل» أنهم يطالبون بذلك علناً، من زاوية «الحرص على المدنيّين والخسائر التي يتحمّلونها»، وفي دواخلهم أملٌ بانتخاب رئيس للجمهورية يوازي بشير الجميّل بعد اجتياح ١٩٨٢، إذا استطاعوا، معتمِدين على ما ستؤول إليه المواجهات من وجهة نظرِهم! ومَن لا يعرف حلم إبليس بالجنة لا يعرف كيف يفكّر المُقَصِّر الذي «نَبْضُهُ» حامٍ!