قبل أيام قليلة من اندلاع «انتفاضة البنزين» في عدد كبير من المدن الإيرانية، وصف الرئيس الإيراني، حسن روحاني زمن بلاده الراهن بأنه «الأصعب، منذ بداية الثورة حتى الآن». وبعد أن استعرض واقع التراجع الحاد في مبيعات النفط، وعرج على أزمة التهرب الضريبي التي تبدد ثلثي ما ينبغي تحصيله للخزينة، أكد أن البلاد تعاني من فقدان الدولار وغيره من العملات الأجنبية، التي من دونها لن يكون بوسع الدولة أو القطاع الخاص توفير مروحة كبيرة من السلع والخدمات، كالنفط وقطع الغيار والمواد الغذائية الأساسية، والأدوية، ودفع الرواتب لموظفي الحكومة في الخارج، ونشاط البنوك الإيرانية في معاملاتها الخارجية.
إزاء هذه الصورة القاتمة التي رسمها روحاني لن يكون مستغرباً أن انتفضت قطاعات شعبية إيرانية، لكن هذا الإقرار بالفشل من رئيس الدولة لم يعفِ المتظاهرين من تهمة «التخريب» و«التآمر» على لسان المرشد علي خامنئي، كما لم يسقط عنهم صفات «العملاء» و«الأعداء».
التهم الجاهزة سبق أن سمعها الإيرانيون والعالم حين اندلعت مظاهرات مماثلة في إيران نهاية عام 2017 وبداية عام 2018، تمحورت دوافعها حول فشل السياسات الاقتصادية وتضخم الأسعار والبطالة وتردي الخدمات. وسبق وسمع الإيرانيون والعالم تهماً مماثلة حين اندلعت «الحركة الخضراء» عام 2009 احتجاجاً على تزوير الانتخابات الرئاسية وتدخل المرشد لصالح الرئيس الأسبق محود أحمدي نجاد ضد المرشح الناجح مير حسين موسوي.
بهذا المعنى شهد العقد الفائت اصطدام الإيرانيين بالنتائج المريعة لفشلين على مستوى نظام الثورة. فشل سياسي عام 2009 وفشل اقتصادي تتبدى أسوأ نتائجه منذ عام 2017 حتى اليوم. وفي الحالين كان الشارع هو الحل، مع ملاحظة تنامي الراديكالية التي تميز شعارات المتظاهرين والتجرؤ على رموز الثورة كإحراق صور خامنئي ورموز بطانته الأمنية والسياسية.
الجديد هذه المرة، أن الانتفاضة في إيران تتزامن مع انتفاضات مشابهة في العراق ولبنان، أكان بدوافعها الاقتصادية التي يتداخل معها دور واضح للسياسيات الإيرانية المؤدية إلى الفشل أو بانطواء المظاهرات على موقف معادٍ للنظام الإيراني وتدخلاته، وإن كان ذلك أكثر وضوحاً في العراق وإيران نفسها منه في لبنان بسبب اتساع رقعة الطبقة السياسية اللبنانية وتعدد مراكز القوى فيها.
ففي حين يحرق المتظاهر العراقي صور خامنئي وسليماني في بغداد، مدفوعاً بشعور بالمهانة الوطنية نتيجة التدخل الإيراني السافر في شؤون العراق، يفعل الإيراني مثله في طهران وغيرها لأنه يختبر باللحم الحي تبعات تصدير ثروات بلاده إلى الخارج لخدمة السياسة الثورية الإيرانية، في لبنان وسوريا والعراق واليمن وفلسطين… في الواقع، يقدم لبنان مثالاً علنياً على ذلك، حين يقول حسن نصر الله، إن موازنة «حزب الله» ورواتبه وسلاحه ممول من إيران، أو حين يعلن قبل أسابيع فكاكه التام، ولو بالكثير من المبالغة، عن دورة الاقتصاد اللبناني بقوله إن الانهيار الاقتصادي المحتمل لن يمنعه من الاستمرار في دفع رواتب حزبييه ومخصصاتهم.
لبنان، كما العراق وإيران، ضحية واضحة للسياسات الإيرانية الفاشلة، ولعدم قدرة القوة الإيرانية الأمنية وكفاءة حروب الوكالة التي تديرها في المنطقة، على المساهمة في أي استقرار أو ازدهار.
الأهم أن لبنان، بوصفه الحاضنة لأنجح منتجات الثورة الإيرانية، ألقى في الأسابيع الماضية ضوءاً كاشفاً على ضحالة الفكر الاقتصادي أو الاستراتيجي الذي تتبجح إيران وأذرعها في إتقانهما… فلا شيء يفسر هذه الضحالة، مثل خطابات أمين عام «حزب الله»، وديماغوجيته في مواجهة التحديات الحقيقية التي تهدد المشروع الإيراني، في إيران وخارجها.
في خطاب أخير له احتفل نصر الله بإعلان روحاني عن اكتشاف بئر نفطية تحوي 53 مليار برميل نفط، وراح يجمع ويطرح ويحسب القيمة الدولارية للاكتشاف، بمثل ما يحسب أصحاب الدكاكين غللهم. وما إن خلص إلى أن قيمة الحقل المكتشف تفوق الألف مليار دولار، حتى تبين أن الاكتشاف النفطي لا يتجاوز 22 مليار برميل، تتقلص إلى حدود 2.2 مليار برميل هي نسبة العشرة في المائة القابلة للاستخراج!
وفي خطاب سبقه، توسع نصر الله في شرح نظرية التحول شرقاً نحو الصين، كواحدة من آليات مواجهة الهيمنة الأميركية، متحدثاً بثقة عن الاستعدادات الاستثمارية الصينية في لبنان. وكما مزاعم الـ53 مليار برميل نفط إيراني، سرعان ما انهارت نظرية التحول شرقاً. فعلى هامش فعاليات الذكرى السبعين لحكم الحزب الشيوعي الصيني، ومن بينها تنظم زيارات لصحافيين عرب إلى الصين، نقلت الزميلة في «النهار» موناليزا فريحة عن المدير العام لإدارة غرب آسيا وشمال أفريقيا في دائرة العلاقات الخارجية للجنة المركزية للحزب الشيوعي تشينغ جيان وي، قوله إنه ليست لبلاده «النية أن نكون بديلاً من أميركا في لبنان، وليست لدينا القدرة على ذلك… لن نسعى إلى ملء الفراغ».
بمثل هذا الانهيار المريع في المزاعم تقاس المزاعم الأخرى، أكان ما يتعلق بتحرير فلسطين أو هزيمة الإرهاب أو مواجهة الإمبريالية الأميركية أو الانتصار في سوريا. وبمثل هذا القصور المعرفي يقاس القصور في تناول المشكلات الأخرى، أكانت اقتصادية أم اجتماعية أم سياسية، أو ما يتصل منها بصياغة أطر العيش في المجتمعات التعددية، التي تحترف إيران اختراقها بالأفخاخ المذهبية والإثنية والمناطقية.
سبق لإيران أن زعمت الهيمنة على أربع عواصم عربية. جاء الوقت الذي يهيمن فيه همّ هذه العواصم الأربع على إيران مضافاً إليها همّ الانتفاضة الإيرانية الأحدث.