في افتتاحية في جريدة «النيويورك تايمز» يوم 20 نيسان (أبريل) الماضي، أكد وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف على ضرورة الحوار الإقليمي بين إيران وجيرانها. وقال إن «هناك ميادين متعددة حيث تتقاطع مصالح إيران والدول الرئيسية في المنطقة»… وأضاف «أن فكرة إنشاء إطار للحوار المشترك… هي فكرة طال انتظارها».
لا شك في أنه توجد، على رغم الصراعات الدائرة، مجموعة من المصالح المشتركة على المدى الطويل بين الدول الرئيسية في المنطقة، لا سيما في إخماد الحروب وبناء الاستقرار وتعزيز الازدهار الاقتصادي.
فقد استطاعت مناطق أخرى في الأميركتين وأوروبا وآسيا وأفريقيا التغلب على عقود من الصراعات الدامية والعبثية، وتأسيس أُطر إقليمية تحمي سيادة الدول ومصالح شعوبها وتبني على المصالح المشتركة وتوفر آليات لتسوية النزاعات وتنظم الاستثمار لتحقيق الازدهار الاقتصادي. ولكن الوصول إلى مثل هذا الإطار من الاستقرار والعمل المشترك سوف يتطلب تغييرات كبيرة في المواقف والسياسات، بالأخص من إيران نفسها.
يقول ظريف، وقد يكون محقاً في المبدأ: «إن الحوار الإقليمي ينبغي أن يستند إلى مبادئ معترف بها عموماً وأهداف مشتركة، ولا سيما احترام السيادة وسلامة الأراضي والاستقلال السياسي لجميع الدول، وحرمة الحدود الدولية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية والتسوية السلمية للنزاعات وعدم جواز التهديد باستعمال القوة أو استخدامها فعلاً، وتعزيز السلام والاستقرار والتقدم والازدهار في المنطقة.» إلا أن إيران تنتهك كل هذه المبادئ تقريباً في عدد كبير من الدول العربية.
فهي أنشأت «حزب الله» في لبنان وتمده بالمال والسلاح والأوامر، وكذلك تسلح وتمول الميليشيات في العراق، وأرسلت قادة عسكريين ومجموعة ميليشيات للقتال إلى جانب نظام بشار الأسد في التصدي الوحشي لأي «تسوية سلمية» للنزاع السياسي في سورية، وأرسلت المال والسلاح لميليشيا الحوثيين في اليمن، وحركة «حماس» في غزة… إلخ.
هذا لا يعني أن الدول العربية لم تتدخل قط في شؤون الدول العربية الأخرى، ولكن هناك أمرين تجدر الإشارة إليهما، أولاً لا يوجد حالياً أي دولة عربية تنتهك سيادة إيران أو تتدخل في شؤونها الداخلية بينما إيران تفعل العكس بانتظام. ثانياً أن تدخل الدول العربية في اليمن وسورية مثلاً، لم يخرج عن كونه ردود أفعال متأخرة على تمادي إيران في التدخل والاستفزاز. فقد وقفت دول الخليج في الأصل على الحياد في أول ستة أشهر من الثورة السورية على نظام الأسد، ولكنها اضطرت إلى التحرك بعد أن تحول النظام، بدعم من إيران و «حزب الله»، إلى توجيه قوته العسكرية الكاملة ضد شعبه. وفي اليمن، لم تتحرك المملكة العربية السعودية وتحالف «عاصفة الحزم» إلا بعد أن اجتاحت حركة الحوثيين المدعومة من إيران العاصمة اليمنية صنعاء وتحركت لاحتلال العاصمة الثانية عدن.
ولا يوجد أي دولة عربية لديها ما يشبه جيشاً كاملاً تابعاً لها في بلد آخر، مثل «حزب الله»، الذي لا ينتهك سيادة لبنان فحسب ولكن ينتهك السيادة السورية ويساهم في قتل وتهجير مئات الآلاف من السوريين.
مرّت العلاقات بين إيران والدول العربية في الماضي بمراحل من التوتر والصراع، فقبل الثورة الإسلامية، هدد الشاه جيرانه العرب في مناسبات عدة. وحملت الثورة الإسلامية إلى سدة الحكم عام 1979 تهديدات، لا بل وعوداً صريحة بقلب الأنظمة في العديد من الدول العربية، بما فيها دول الخليج، وأعلنت ما يشبه العداء الواضح لمعظم الدول العربية القائمة. وكانت ردة فعل عدد من الدول العربية أنها وقفت إلى جانب العراق بعدما قام صدام حسين بغزو إيران عام 1980. ولا شك في أن هذه الحرب أثّرت على جيل كامل من الإيرانيين ورسخت شعوراً بالقلق وعدم الثقة تجاه دول الجوار العربي، كما خلّفت مئات الآلاف من القتلى والجرحى الإيرانيين، بالإضافة إلى مئات الآلاف من الضحايا العراقيين بين قتيل وجريح. فما جرى في الماضي بين إيران والدول العربية يلقي بثقله على الحاضر، والمصارحة ضرورية لتخطي الماضي، إلا أنه لا يصلح كمنطلق لتبرير الحاضر أو التطلع إلى بناء مستقبل على أسس احترام السيادة وعدم التدخل.
ما يلفت أيضاً في تصريحات ظريف، وما يستفز أي قارئ عربي، أن الوزير الإيراني لا يلفظ كلمة «العربي»، ولا يأتي على أي ذكر للعالم العربي أو دول ومجتمعات عربية. إنه يتحدث عن «إيران» و «الخليج الفارسي»، وفي تسمية عجيبة: «منطقة الخليج الفارسي الأوسع». وبصرف النظر عن النزاع حول تسمية الخليج (حيث إن معظم العرب يطلقون عليه اسم الخليج العربي)، فإن وصف ظريف لكامل المشرق العربي بأنه جزء من «منطقة الخليج الفارسي الأوسع» ليس مستفزاً لدول وشعوب المنطقة فحسب، لكنه وصف سخيف، فعلى هذا الأساس بوسعنا أن نصف الولايات المتحدة بأنها جزء من «منطقة الخليج المكسيكي الأوسع» أو أن الهند وباكستان جزء من «منطقة البحر العربي الأوسع». وسواء كان يسمى الخليج الفارسي أم لا، فإن إيران لا يحق لها أن تدعي أي امتيازات خاصة فوق الدول الساحلية الأخرى غير تلك التي تمنح لأي دولة ساحلية في القانون الدولي وبالاتفاق المتبادل.
وبصرف النظر عما إذا كانت إيران غير مستعدة للاعتراف بالهوية السياسية لجيرانها، فإن مبدأي احترام السيادة وعدم التدخل ينبغي احترامهما في كل الأحوال. وبينما كان الرئيس الإيراني حسن روحاني ووزير الخارجية ظريف يتفاوضان على مدى العامين الماضيين مع الدول الخمس+1 في سويسرا، كان قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» يقود الميليشيات الشيعية في العراق وسورية، ويفاخر بسيطرة إيران على ما لا يقل عن أربع عواصم عربية.
هذا يقودنا إلى جوهر المسألة، فأي متابع للشأن الإيراني حتى اليوم يخلص إلى أن روحاني وظريف ليسا من يتحكم بسياسة إيران تجاه الدول العربية. وإذا قارنّا بين تصريحات وزير خارجية إيران الأخيرة وسياسات إيران الفعلية، نرى أن إيران تنتهك تقريباً كل المبادئ التي يقول بها وزير خارجيتها. فإما أنه يكذب، أو أنه يعبر بصدق عن تفضيلاته ولكن من دون أي تأثير حالي وفعلي على سياسات إيران العربية. أو أنه يعبر عن السياسات التي يود أن يطبقها في حال تمكن هو والرئيس روحاني من انتزاع السيطرة من «الحرس الثوري» على سياسة إيران العربية، أو استطاعا إقناع المرشد الأعلى بضرورة تعديل السياسة الإيرانية. وإذا كان الأمر كذلك، فقد يكون هناك شيء من الأمل في المستقبل إذا تغيرت موازين القوى في إيران.
ومع ذلك، فإن هدف السعي إلى الحوار الإقليمي هو هدف مهم. فلا ينبغي على إيران والدول العربية وتركيا تسوية نزاعاتها في ساحات القتال المختلفة، فهذا يضر بمصالح دول المنطقة وشعوبها كما بمصالح المتخاصمين، بل من الأفضل الوصول إلى مرحلة حيث تحترم إيران، وكل دول المنطقة، مبادئ السيادة وعدم التدخل، وتعمل على تعزيز الاستقرار والبناء على المصالح المشتركة في النمو الاقتصادي وإيجاد آليات لحل النزاعات بالسياسة والدبلوماسية، لا عبر تسليح الميليشيات وشن الحروب بالواسطة.
ولكن على ظريف أن يعلم أن أي اتفاق إقليمي سيتطلب تحولات أساسية من جانب إيران. وذلك يعني التخلي عن «حزب الله» كجيش يحارب بالوكالة خارج سيطرة الدولة في لبنان وتوجيه أي مساعدات عسكرية عبر القنوات الرسمية للحكومة اللبنانية. وذلك يعني أيضاً سحب الميليشيات الإيرانية التي تحارب بالوكالة في سورية والتسليم بحل سياسي ورحيل الأسد في سورية، وغيرها من التغييرات الجذرية في السياسة الإيرانية. هل يمكن روحاني أو ظريف تحقيق مثل هذا التغيير؟ إذا كان الأمر كذلك، فإن الدول العربية سوف ترحب بذلك وتمد اليد للحوار. أما إذا لم يكن الأمر كذلك، وبقيت إيران على سياساتها الحالية، فسيكون من الصعب إيجاد أي أساس لإطلاق حوار إقليمي فعلي. إن دعوة ظريف للحوار الإقليمي مرحب بها من حيث المبدأ، ولكن من دون تغيير فعلي في السياسة الإيرانية تبقى دعوته خالية من الجدية وغير قابلة للتجاوب الجدي من قبل الجانب العربي.