ما يجري في هذه الأيام في إيران، يدعو إلى متابعته بأقصى أنواع المراقبة والتبصّر، فعيديّة الشعب الإيراني إلى نظامه القائم هي هدية من «الوزن الثقيل» وهي مستمرّة بشكل تصاعدي منذ أكثر من أسبوع، مستقطبة إليها ليل نهار، أرتالا جديدة من المتظاهرين، يكسوهم الغضب ويسيّرهم الهائج إلى العنف في التعبير والتحرك والتصرف، وسط الهتافات الإتهامية القاسية لنظامهم القائم وصولا إلى رؤوس تلك القيادات وزعاماتها ذات السطوة الماورائية، من دون أن يوفروا للرئيس روحاني شتيمة ولا تهمة، ومن دون أن يراعوا الولي الفقيه بقيادته وصلاحياته وصلاته الدنيوية والدينية، فإذا بالهتافات تزداد حدة وشدة مع مطلع كل شمس، وأقل ما تُطْلعه للملأ، تهمُ الخيانة والفساد وتجويع الشعب الإيراني، والإلقاء به في أحضان العوز والبطالة وتبديد ثرواته الطائلة في تصرفات طموحه إلى التمدد واستعادة المجد الفارسي، والإستيلاء بشتى الوسائل على أراضي البلدان المجاورة، دونما أية مراعاة للقواعد والأساليب والتصرفات الملائمة التي تعتمدها الشعوب عادة في علاقاتها العامة والخاصة، فإذا بالإيرانيين يجدون أن المال الإيراني يهدر ويبدّد في كل حدب وصوب، وبدماء الإيرانيين وأنصارهم، تهرق خارج إيران حيثما هناك ذرّة من طمع بأرض الغير وباستعادة مْجدٍ بائد، أو في إعلاء شأن مذهب على مذهب وقوم على أقوام.
ولنستمع إلى هتافات هذا الشعب الذي بات يطلقها ضدنا نحن العرب، متهما نظام بلاده بصرف أمواله الطائلة على مطامعه بنا وبأرضنا وبما نملكه من مواقع استراتيجية وأموال وثروات قائمة أو كامنة تحت الأرض ومتغلغلة بين الخفايا والخبايا. الشعب الإيراني الثائر في هذه الأيام يتهمنا، نحن العرب بإقرار بعض زعمائنا، أننا نأخذ من فم أولاده لقم العيش، ومن حياته وسائل الحياة الكريمة، وقد كانت مناسبة حفلت بها خلال الأسبوع الملتهب وسائل الإعلام المختلفة، ندد فيها المتظاهرون بوجود إيران وامكاناتها المادية الضخمة المهدورة، في سوريا والعراق ولبنان واليمن وغزة، ومن بينها إظهار لذلك التصريح الذي تم الإدلاء به في لبنان قبل مدة كانت حافلة بالأحداث والتصريحات، والذي ذهب إلى أن أكل حزب الله وشربه وتسلّحه وصواريخه وكل ما يملك وما يصرف، هو مموّل من قبل الجمهورية الإسلامية في إيران، ويبدو أن الأوان قد آن لينطلق ذلك الشعب الجائع والمحتاج والغارق في حاجاته الملحة المهربة من نطاق إمكاناته الكبيرة، والتي تخضع ثرواته إلى غرق كامل في ما يسمّيه الإيرانيون في هذه الأيام بأعمال النهب والسلب والفساد، وها هو بين وقت وآخر، يهبّ محتجا ومتظاهرا ومجابها نظاما يرى فيه ظلما وظلاما، وها هو هذه المرّة في غمار انتفاضة جديدة، يرى فيها كثيرون أنها ليست اطلاقا كالإنتفاضات والهبّات السابقة، بل هي أشمل وأشد وأعمق، وأنها هذه المرة تجيء في غاية الإحراج للنظام، الذي ما لبث أن استفاق إلى أهميتها وحرجها، وأطلق بنادق حرّاسه تقتل العشرات من المواطنين المحتجين والمطالبين بما يقيهم الجوع والعوز، ويفتح أبواب السجون ليلقي في ظلمتها مئات من هؤلاء، وسط تهديد متنام بمزيد من المواجهة لكل من يتابع الطريق «الشاذ» في الاحتجاج والمجابهة وتهديد النظام القائم بأقسى النتائج التي يخشى من حصولها أي نظام قائم على أسس لا تحظى برضى الناس والمواطنين والوطن، وتغرقه في بعض الأطر التي تسود البلاد وتكاد أن تستولي على المنطقة من خلال مبادئ قد ترضيه وترضي أتباعه، إلا أنها تبقى بعيدة كل البعد عن رضى ذلك الشعب الذي يمارس الاحتجاج في هذه الأيام، ضمن إطار ديمقراطي تجيزه له الممارسات الشرعية والقانونية الحديثة، وتأباها عليه، أنظمة لها امتداداتها ما بين الارض والسماء، والخلط بين الجيوب العامة والخاصة، من دون أن يعلم أين تقع حقوق ذلك المواطن الباحث عن وجوده، وعن لقمة لإبنائه فيجدها عالقة ومعلقة بعيدا عن يده وعن فمه وعن قدرته على لمسها وتحويلها إلى وسيلة للعيش الكريم.
أنها طلائع انتفاضة حقيقية لا علاقة لها بالأسباب السياسية التي كانت اساس ومركز الانتفاضات السابقة التي عمد النظام القائم تكرارا إلى قمعها في إطاراتها السياسية والزعاماتية القديمة والإستمرار في سياسة الملالي وولاية الفقيه والتوجهات الملغومة بكل أنواع الفساد. الانتفاضة القائمة تنم عن أوضاع جديدة حافلة بأنواع العنف والقمع، تجاه شعب يعاني من الجوع والبطالة وكل أسباب التخلف وهو لم يعد لديه ما يخسره أكثر مما خسر وسيخسر، لذلك، وهو في هذه الحال المؤسفة التي هو فيها فإن استعدادات النظام القائم للدفاع عن ذاته وعن مكاسبه وعن توجهاته السياسية المطعمة بالغيبيات والتوجهات المذهبية، تبدو وضعية صعبة، وشديدة التعقيد، وآفاقها تنم عن دماء بدأت فعلا في ملء الساحات والشوارع فضلا عن قرابة المائة مدينة بينها طهران نفسها، كما بدأت آفاق المستقبل القريب والبعيد تكفهرّ وتنبئ بما لا يمكن حتى الآن التنبؤ بتفاصيل أحداثه المقبلة، وحقيقة التطورات التي يخبئها القدر لذلك الشعب المقهور بلقمة أبنائه وببطالة متمددة إلى جموع من الشباب الطالع الذين أطلوا على الحياة العامة وهي على هذه الوضعية التي همّشته وأمعنت في تهميشه إلى حدود دفعت به إلى أتون الانتفاض، وتكاد أن تضع هذه الانتفاضة المستجدة في حدود الثورة الشعبية الشاملة التي تشتد وتحتد بسرعة ملتهبة، ويبدو أن الأيام تخبئ للشعب الإيراني شرا مستطيرا وقاه الله من نتائجه المدمرة.