الآن ستنصرف فرنسا الى همومها الأخرى. هي لن تتخلى عن اهتمامها بلبنان، بل ستواصل التعبير عن هذا الاهتمام “بتوسيع العقوبات وزيادة قساوتها” ضد الذين تعتبرهم يعطلون التسوية ويُفشلون مبادرتها، لكنها ستحاول تحقيق أرباح صافية في أماكن أخرى تدعم استعداد الرئيس ايمانويل ماكرون لإحتمال خوض المعركة الرئاسية المقبلة في بلاده.
ستهتم فرنسا بأفريقيا من بوابة تشاد، وبالشرق الأوسط من بوابة مصر، وبالخليج من بوابة السعودية والامارات، وستبحث عن دور في سوريا بالتعاون مع الروس، اضافة الى ما تنتظره من مكاسب نتيجة سعيها لإحياء الاتفاق النووي الايراني.
في لبنان اصطدمت فرنسا بوقائع المنطقة كلها. ليس في البلد من هو قادر ومستعد لإتخاذ قراره بشكل مستقل. الفاعلون من اصحاب الأختام غارقون حتى آذانهم في ارتباطاتهم وحساباتهم الإقليمية، وهم لن يفيدوا بلدهم فكيف سيفيدون بلاد الغال.
كان الاجدى بالوزير الفرنسي المخضرم، الاشتراكي في حكومة اليمين، أن يأخذ بعين الاعتبار موقفين ومناسبة “تاريخية” قبل مجيئه الى بيروت. الموقف الأول ما كشفه نظيره الايراني جواد ظريف من ان “الميدان” يتحكم في الديبلوماسية في السياسة الايرانية. والترجمة اللبنانية لهذا التصريح الظريف ان فيلق القدس في لبنان هو من يرسم السياسات، وان هدف هذه السياسات تحصين موقف القيادة الايرانية في حروبها الابدية. الموقف الثاني هو ما ادلى به منسق العلاقات الرئاسية اللبنانية السورية بيار رفول وفيه ان اميركا التي رفعت الحظر عن الحوثيين ستضطر لرفعه عن فريقه، وما على اللبنانيين سوى انتظار توالي انتصارات محور الممانعة!…
لم ينتبه لودريان لهذين التحليلين بأبعادهما العملية والاستراتيجية، كما انه لم ينتبه الى ان زيارته اللبنانية تتم عشية يوم القدس الذي اطلقه الخميني، وهو غادر بيروت لحظة بدء الامام خامنئي خطابه في المناسبة وقبل ساعات من اطلالة الأمين العام لـ”حزب الله” في الموضوع نفسه.
خطابات المناسبة بدأت ترد قبل حلولها، وفحواها ان المعركة مع اسرائيل هي الاساس، وتحرير فلسطين لن يستغرق ساعات واسترداد القدس أقرب بما لا يُقاس، وهو مسألة أيام في السردية إياها.
جاء لودريان في هذا التوقيت المُفعم بآمال النصر، تغذيها احتمالات رفع العقوبات عن ايران طليعة التحرر العالمي، وهو حلَّ بين ظهرانينا وليس في يده سوى التلويح بعقوبات قد تتناول منع سياسيين لبنانيين من زيارة عاصمة النور للتبضع من اجل زوجاتهم وصديقاتهم، ولم يأخذ في الاعتبار نصيحة ظريف عن الميدان الذي يحكم السياسة، ولا حسم الرفول في الالتحاق بالمحور المقاوم، كما انه نسي انشغالات القادة بتحرير ارض الميعاد في موعد اقرب مما يتصوره الفرنسيون وداعمو مبادرتهم السيئة الحظ لإخراج اللبنانيين من جهنمهم، للإستراحة قليلاً قبل خوض معارك الإقليم الكبرى!!