شهد العام الماضي تحولات مهمة في علاقات إيران بمحيطها الإقليمي من الدول، إضافة إلى العلاقات التي تربطها مع محور المقاومة بما فيه من أحزاب وميليشيات وأنظمة، أقامت فيما بينها علاقات متعددة المستويات تتصل بدعم القضية الفلسطينية والصراع مع إسرائيل. وكان جوهر التحولات الإيرانية الإقليمية ينوس بين حدين؛ تقارب وتخفيف حدة الخلافات السياسية، كما حصل في الاتفاق الإيراني – السعودي 2023، وتجاهل وسكوت تحت خط «الصبر الاستراتيجي» كما تسميه طهران في المواقف من إسرائيل وسياساتها إزاء إيران والمتصلين بها من محور المقاومة.
واتخذت علاقات إيران مع محور المقاومة طابعاً مختلفاً؛ إذ حافظت طهران على مواقفها المعلنة إزاء أطراف الحلف في خطها الدعائي والإعلامي، وإن يكن بوتيرة أضعف، لكنها في الواقع العملي سارت خطوات في اتجاه التخلي عن بعض تلك الأطراف، خصوصاً وسط تطورات سياسية وعسكرية عاصفة، رأت إيران أنها لا تحتمل نتائجها، أو أنها لا ترغب في تحمل نتائج ما يجري في أحسن التقديرات.
إن مثال تحول إيران إزاء «حماس» شريكتها الفلسطينية، كان واضحاً بعد عملية غلاف غزة 2023، حيث حاولت إبعاد نفسها عن كل ما له صلة بالعملية، خصوصاً عندما بدأت التفاعلات السياسية والعسكرية الحادة، تتوالى من جانب إسرائيل والدول الغربية، بل اتجهت نحو التخلي، وتركت «حماس»، ومعها فلسطينيو غزة يعانون بين حدي وحشية إسرائيل وتقصير المجتمع الدولي في الوصول إلى حل، أو إقرار هدنة توقف مسار القتل والدمار، وسكتت إيران عن تصفية قيادات فلسطينية بينهم إسماعيل هنية زعيم «حماس»، وذهبت وعود طهران بالرد على العملية أدراج الرياح.
ولا تختلف كثيراً ملامح سياسة إيران مع النظام السوري عما سبق. ففي العموم تميزت تلك السياسة بجفاء شبه معلن بين طهران ودمشق متعدد الأسباب والأبعاد، وكانت الهجمات الإسرائيلية على أهداف إيران وبعض جماعاتها من الميليشيات واحدة من قنوات دلالة تدهور العلاقات.
وثمة ضرورة لا بد من الإشارة إليها عند الحديث عن أي سلبيات في علاقات طهران – دمشق، وهي حرص الطرفين على التستر على السلبيات والخلافات، ولو من موقعين مختلفين؛ أولهما ضرورات المصلحة الاستراتيجية الإيرانية في الوجود بسوريا والثاني حاجة النظام في دمشق للمساعدة الإيرانية في بقائه، وتجاوز مشاكله ولو بالحد الأدنى.
النموذج الأكثر اختلافاً في علاقات أطراف محور المقاومة مع طهران هو «حزب الله» اللبناني، فهو تابع عميق للمرجعية الدينية، بما أن الحزب أداة السياسة الإيرانية، ليس لأن إيران تموله وجمهوره بصورة كاملة، كما أكد نصر الله مرات، بل لأنه ينفذ تلك السياسة من دون تردد، بما فيه الفصول الخفية، ومن هذه النقطة، يمكن تفسير موقف «حزب الله» من التدخل العسكري في سوريا عام 2012 بطلب من إيران بخلاف ما كان شائعاً عن موقف الحزب بداية ثورة السوريين من موقف متوازن للحزب، وثمة نقطة أخرى في الدلالات، وهي قيام الحزب بتأسيس وتدريب جماعات وميليشيات تتبع إيران في العديد من البلدان منها سوريا واليمن والعراق، إضافة إلى تدخلات الحزب في تلك البلدان لصالح إيران.
وإذ أدت التطورات السياسية والعسكرية في المنطقة إلى تبني سياسة «الصبر الاستراتيجي» الإيراني أملاً بتمرير الوقت وكسبه لصالح تعزيز وجودها في بلدان سيطرتها العربية، واستكمال المشروع النووي، فإن «حزب الله» سعى ليكون وجه محور المقاومة في الضغط لوقف الحرب الإسرائيلية على غزة، مستفيداً من «قواعد الاشتباك» التي تعني تسخين الجنوب بين لبنان وإسرائيل من دون الذهاب إلى حرب بينهما، غير أن إسرائيل التي حققت الجزء الأكبر من أهدافها في غزة، قررت ضرب قواعد الاشتباك مع «حزب الله» عرض الحائط، وبدأت حربها الصاعقة على الحزب وحاضنته في لبنان من الجنوب إلى بيروت إلى البقاع انطلاقاً من موجة تفجيرات «البيجر» وصولاً إلى الهجمات الجوية، وقد سقط في الحرب حتى الآن آلاف من قيادات وكوادر الحزب بينهم نصر الله ومعظم قادة الحزب.
وقريباً مما فعلته عملية غلاف غزة، فقد دفعت تطورات الحرب الإسرائيلية في لبنان، وتجدد الهجمات الإسرائيلية في سوريا على أهداف تخص إيران و«حزب الله» والنظام السوري، أعادت إيران ترتيب سياساتها قريباً من فكرة التخلي عن محور المقاومة أو تقييد العلاقة مع أطرافه، كما يظهر جانب من التحولات في سياسة طهران حيال الولايات المتحدة وإسرائيل في تصريحات الرئيس الإيراني الجديد.
خلاصة القول، أن إيران وحسب مؤشرات عملية، تسير على طريق التخلي عن محور المقاومة. فهل سيكون ذلك مؤقتاً أم سيكون التخلي خطاً معتمداً لسياسة طهران المستقبلية في المنطقة؟ ووفق أي من الاحتمالين، يبدو السؤال الأكثر أهمية متعلقاً بسوريا، وهي الطرف الأكثر خصوصية عند إيران، حيث دفعت على مدار الثلاثة عشر عاماً تكلفة كبيرة من الناحيتين البشرية والمادية لتقوية حضورها ونفوذها هناك، وهي بين الضرورات الاستراتيجية الكبرى بالنسبة لإيران.