دمشق | لا شيء استثنائياً عند الحدود اللبنانية ــــ السورية سوى طفلة في ربيعها العاشر، على الأرجح، جالسة القرفصاء تبكي وترتجف عند درج الأمن العام اللبناني. لعلها ضائعة أو تنتظر أهلها. لعلها عائدة الى بلدها، فتذكرت إحدى صور الحرب وترجوهم عدم العودة. عيناها الصغيرتان الغارقتان في الدموع لا تجدان من يرفق بهما سوى كفّي يديها الصغيرتين.
لا شيء يناقض دموع هذه الطفلة السورية سوى صورة فتاة بعمرها، مشرقة الوجه، ضاحكة العينين والثغر، تتصدر لافتة كبيرة في منتصف الطريق السورية، ترفع علم سوريا، وفوقها شعار يقول:» فوق الغيم لنعلَيك».
بين الدموع والابتسامة، تمر على سوريا قريباً 4 سنوات من الحرب. مئات آلاف القتلى والجرحى. ملايين النازحين. دمار هائل في الحجر والنفوس. لكن هذه الدمشق توحي وكأنها، كما تاريخها، عصية على الموت. كأنما عنفوانها يمنعها من إظهار ضعف أو ذرف دمعة.
شارع المزّة مزدحم. الطلاب يخرجون من المدارس صوب باصات النقل. يخرجون ضاحكين وكأن لا حرب ولا فتنة. الشرطي لا يزال متمتعاً بهيبته. إشارات المرور تفرض احترامها. سيارات التاكسي البيضاء الجسد والصفراء الأطراف تتدفق صوب الجادة الشهيرة، تحتال على الميكروباصات. عيون الركاب ترصد سيارتنا اللبنانية. بعض الركاب يبتسمون لنا كما دأبهم منذ عشرات السنين، وبعضهم الآخر ربما ذاق ويلات النزوح وبعض العنصرية في لبنان فعكس الغضب في عينيه. الفندق مزدحم على نحو لافت. الأمن السياسي كعادته منذ عشرات السنين يرصد الداخلين والخارجين في بهو الفندق.
لا شيء تغير في الطريق الى دمشق سوى بعض الشعارات. أولها مباشرة بعد الحدود يقول: «ليس من ثقافة السوريين هدم الوطن وتخريب ممتلكاته». الشعار واضح الرسائل. الآخرون هم المسؤولون. لا مجال للتفكير هل أن الشعار محقٌّ أم لا. تحضر الطبيعة فتحتجب السياسة التي تكاد تدمر الطبيعة.
تداهمنا الشمس بين الجبلين في المنطقة المشتركة اللبنانية ــــ السورية التي لم يحسم أمرها حتى اليوم، كما أمر الكثير من الأمور العالقة بين البلدين. تعكس أشعتها على التلال، فتزهو التلال التي كبرت فوقها شجيرات السرو والصنوبر.
تبدو صورة الرئيس بشار الأسد وشقيقه باسل شاحبة قليلاً قرب لوحة الوالد حافظ الأسد. مرّ وقت طويل قبل تغيير اللوحات. أما الشعارات فقد تغيرت. بعضها يعود الى الانتخابات الأخيرة: «كلنا معك، أرواحنا فداك، بالدم بايعناك». بعضها الآخر أقدم، وهو مذيًّل بتوقيع شركة الاتصالات «سيرياتل»، أقدم ربما، لأنه يشجّع السياحة الى طرطوس وكسب وقلعة الحصن ومعلولا. بعضها الثالث فيه رجاء قبيل الأعياد: «سوريا الله حاميها»، كثير منها يمجّد الجيش «الله محيي الجيش» أو «خبطة قدمكن عالأرض هدارة».
الحواجز قليلة، حركة الواقفين عندها توحي باستعادة شيء من الثقة، لم يعد التفتيش صارماً، وحده حاجز الفرقة الرابعة يبدو أكثر حذراً. السيارات المحملة بالبضائع تنزل في طريق فرعي الى جانب الطريق ويتم إنزال حمولتها على الأرض للتفتيش. الباقي يبدو إجراءات عادية.
لا أدري لماذا خطرت لي عبارة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر عن دمشق: «قلب العروبة النابض».
اعتمادات مالية كبيرة من إيران وروسيا وأسلحة قد تؤثر في سير المعركة
في هذه المدينة ثمة ما يرفض الموت وينشد الحياة. نزف قلب العروبة كثيراً في السنوات الماضية، لكنه لا يزال نابضاً وموحياً بأن ثمة أملاً سيأتي من مكان ما، في لحظة ما، ليعيد البهجة الى عاصمة كادت في سنوات ما قبل الحرب أن تصبح إحدى العواصم الأكثر نمواً في الوطن العربي.
لماذا وقعت الحرب؟ من المستفيد؟ من المنتصر ومن المهزوم؟ لماذا تستمر أصلاً؟ تبدو كل هذه الأسئلة علامات استفهام مرسومة في عيون راكبي باصات النقل. تمر قرب الباصات سيارات صغيرة أو سيارات مدنية فيها جنود. يبدو ركاب السيارات العسكرية أكثر ثقة بالنفس مما كانت عليه الحال قبل عامين.
حافظ الأسد وأميركا
من يتصفّح الكتاب – الوثيقة الذي نشرته قبل فترة قصيرة المستشارة الرئاسية الدكتورة بثينة شعبان، بعنوان: «عشرة أعوام مع حافظ الأسد»، يفهم الكثير من التكالب الدولي على سوريا. في الكتاب محاضر جلسات التفاوض مع إسرائيل في مدريد وواشنطن، وفيه محاضر اللقاءات بين الأسد وجورج بوش الأب وبيل كلينتون، ومختصره أن حافظ الأسد بقي صلباً كالصخر في المفاوضات، بقي رافضاً توقيع أي اتفاق حتى حين كان كلينتون يرجوه أن يقبل باستعادة كل الجولان باستثناء 10 في المئة.
حل سياسي؟
ليس مهماً أن يحدد المرء الآن وعشية الأعياد هوية المسؤول عما آلت إليه حال سوريا. هل كان خطأ نظام لم يفاوض المعارضة، أم خطأ المعارضة لأنها لم تحسن تقديم نموذج سياسي جاذب وصارت أكثر إقصائية من النظام، أم نتيجة مؤامرة ضربت سوريا لمعاقبتها على انخراطها في خط المقاومة، رغم أنها في فترة معينة (وفق ما نفهم من كتاب الدكتورة بثينة) كانت تنسج أفضل العلاقات مع أميركا.
الأهم أن ثمة وعياً بدأ يكبر عند السوريين بأنه لا بد من وقف آلة الحرب والذهاب صوب حل يخلّص البلاد مما هي فيه. لكن كيف؟ ومتى؟ يحشرج السؤال في الصدور.
تتعدد المبادرات الروسية والمصرية والإيرانية، يلقى بعضها ضوءاً شبه أخضر من دول غربية وربما من واشنطن نفسها. توحي القاهرة بأنها على طريق التنسيق نحو شيء ما مع الروس والأميركيين وغيرهم. تعكس موسكو مؤشرات أمل. يتخيل المبعوث الدولي ستيفان دو ميستورا أن شيئاً ما قد يقوم من تحت هذا الخراب. تفرح بعض قلوب السوريين، لكن العارفين يعرفون أنه ليس في كل هذه الهمروجة السياسية والدبلوماسية ما يوحي بانتهاء المأساة قريباً. لا تزال لعبة الأمم في أوجها، ومصالح الدول مستمرة على تناقضها غير آبهة بكل هذا الدم السوري النازف على ضفاف القلب النابض ومن هذا القلب أيضاً.
سوريا التي فتحت بورصتها وحررت جزءاً كبيراً من اقتصادها وسنّت القوانين المشجعة وعقدت الاتفاقيات الإقليمية والدولية وأوحت بالازدهار قبيل الحرب، سرعان ما كشفت بعد الحرب أن نسيجها الاجتماعي هش وقابل للاختراق. كشفت أن ثمة نفوساً مشحونة بالقهر، وأخرى بالفقر وثالثة بالمذهبية ورابعة بالفساد وخامسة بالطمأنينة الزائدة عن اللزوم وسادسة بسوء استخدام الأمن، فشرعت أبوابها لكل الغزاة من تكفيريين واستعماريين وحاقدين وأعداء.
دخل الشتاء بيوت السوريين فشعروا بالبرد بسبب نقص المحروقات، وبالعتمة بسبب الانقطاع المتكرر للكهرباء، وبالضيق المالي بسبب توقف الكثير من مصادر الإنتاج. لكن ثمة شيئاً في دمشق يوحي بأن الحياة تستمر وأن القلب يستعيد النبض رغم النزف.
مساعدات مالية إيرانية روسية
في المعلومات، أن إيران وروسيا فتحتا اعتمادات مالية جديدة وكبيرة لسوريا. طهران فتحت خط ائتمان بنحو 4 مليارات ونصف مليار دولار، وروسيا فاجأت السوريين بخط ائتمان جديد بمليار دولار رغم الحصار عليها، إضافة الى 500 مليون دولار مازوت و400 مليون دولار طحين.
في المعلومات أيضاً أن أسلحة روسية وغير روسية مهمة وصلت ومن شأنها التأثير في سير المعركة، ربما عدم الكشف عنها الآن هو أولاً لعدم الحاجة وثانياً لمنع إسرائيل أو غيرها من كشفها.
وفي المعلومات العسكرية أن ثمة عمليات عسكرية كبيرة قد تحصل قريباً في محاولة من الجيشين السوري والعراقي لكسر شوكة داعش والتنظيمات الأخرى، يبدو أن تحضيرات جدية تجرى في هذا السياق، وأن ثمة دولاً غير بعيدة عن هذه الاستعدادات. هل سيشن الجيشان عملاً مشتركاً؟ ربما.
في المعلومات، أخيراً، أن عمليات التطويع في الجيش عادت تشهد كثافة في الحضور السني والعشائري، وخصوصاً في دمشق وريفها وحلب ودير الزور.
التسريبات قليلة، لكن يبدو أن الهدف لن يكون من الأهداف المعهودة والعادية، وخصوصاً أن إحكام السيطرة على حلب أوحى بأن خطوطاً حمراء كثيرة سابقة ما عادت حمراء.
هل الحسم العسكري ممكن؟
أكيد لا، فالطرف الآخر لديه من القدرات الكثير، لكن ثمة اقتناع عند البعض بأن «داعش» و»النصرة» وغيرهما ما عادوا قادرين على إحداث اختراقات كبيرة وأن أقصى ما يمكن عمله هو الاستنزاف الذي قد يستمر سنوات.
في الأمر لا شك بعض المغالاة في التفاؤل، لكن الأكيد أن لا تفكير حالياً بأي حل سياسي يوازن بين الدولة والآخرين، مهما كانت طبيعة الآخرين من معارضة سياسية أو مسلحين أو تكفيريين، وأما ما يقال عن احتمال تقريب فترة انتهاء ولاية الرئيس الأسد تسهيلاً للحل أو بناءً على تشكيل حكومة مشتركة أو هيئة انتقالية، فهو لا يثير في دمشق سوى ابتسامة خبيثة.
كأنما الشاعر العراقي الفذ محمد مهدي الجواهري، يصرخ لتوه: «دمشق صبراً على البلوى». هي لا شك بلوى أن تتحول سوريا الى ساحة صراع إقليمي ودولي هو الأخطر في هذا القرن.