أظهرت زيارة الرئيس الصيني جينبينغ الأخيرة لدولة الإمارات العربية المتحدة الروابط القوية والمتينة التي تربط الصين، ذلك القطب القادم إلى سماء العالمية بقوة، ودول الخليج العربية بشكل عام، وقد سال حبر كثير على الورق لتوضيح أهمية هذه العلاقة، فيما يمكن أن نطلق عليه محاولة جادة من القيادة السياسية في دولة الإمارات لضبط المسافات بينها وبين بقية مراكز الثقل السياسي حول العالم، من الشرق إلى الغرب.
على أن تفاقم الأزمة الإيرانية الأخيرة، لا سيما بعد دخول المرحلة الأولى من العقوبات الأميركية عليها موقع وموضع التنفيذ، يجعلنا نتساءل: هل هذه لحظة فارقة في سجل العلاقات الخليجية (العربية) مع الصين؟ وهل بات على الصين إعادة ترتيب أوراقها وحسم اختياراتها بين إيران وبقية العالم العربي؟
الجواب في واقع الأمر لا بد أن يأخذنا في مسارين: الأول يتصل بعلاقة الصين بإيران، فيما الثاني يذهب بنا نحو علاقة بكين بواشنطن.
أما عن المسار الأول، فما بين طهران وبكين وثيق جداً ومتنوع، ما بين تعاون اقتصادي وسياسي وعسكري، فيما المشهد الثاني بين الصين وأميركا يمكن التعبير عنه بالفعل بأنه مناورات ومداورات بين قطبي رحى العالم؛ قطب قائم، وإلى عقد أو أكثر يكاد يكون منفرداً بمقدرات العالم، اقتصادياً ثم عسكرياً، وآخر قادم كما التنين.
والشاهد أنه إذا كانت العلاقات الإيرانية – الصينية في أوج قوتها، فإن العكس هو الذي يسود العلاقات الصينية – الأميركية، خصوصاً في ظل الحرب التجارية التي أعلنها دونالد ترمب على الصين أخيراً؛ ما يجعلنا نتساءل: هل ستعمد الصين إلى اعتبار الملف الإيراني أداة انتقام، أو في أفضل الأحوال مقايضة مع الطرف الأميركي لتحقيق أعلى درجة من المكاسب للصين، حتى لو جاء ذلك على حساب العلاقات الصينية – الخليجية (العربية)؟
يمكننا القطع بأن الصين لا يمكنها أن تغض الطرف عن الدور المخرب الذي تقوم به إيران، إقليمياً وعالمياً، سواء كان ذلك التخريب موجهاً إلى دول الجوار أو الدول الأبعد منها جغرافياً، وأغلب الظن أنه ليس من مصلحة الصين بالمطلق أن تحوز إيران صواريخ باليستية محملة برؤوس نووية، والأمر نفسه يشغل الروس أيضاً.
غير أن لعبة الشطرنج الإدراكية تجعل الشكوك تتسرب إلى العقول والقلوب، لجهة القول إن الصين قد تجد العقوبات الأميركية على إيران فرصة جيدة للتدخل في شأن يكاد يكون أميركياً بامتياز، بهدف تقويض استراتيجية ترمب تجاه طهران.. ما معنى ذلك؟
المؤكد أن طهران ترى في علاقتها مع بكين مفتاح النجاة، ذلك أنه إذا حزمت الصين أمرها على رفض العقوبات الأميركية على إيران، واستمرت في التعاون معها، بل وعوضت الخسائر الإيرانية من خلال تعظيم استيراد النفط من الإيرانيين، وإيجاد مسارب خلفية لدعم الاقتصاد الإيراني، فإن ذلك سوف يجعل الطريق معبداً بالنسبة لقوى دولية أخرى لتحذو حذوها، الأمر الذي سيقوض حملة ترمب للتضييق على إيران، من جهتين:
أولاً: بالنسبة للأوروبيين الرافضين لانسحاب الولايات المتحدة الأميركية من الاتفاق النووي مع إيران، سيرون في الموقف الصيني مشهداً تقدمياً يدعم مزيداً من التعاون مع الإيرانيين اقتصادياً، وإن كان هذا بدرجة أو بأخرى يؤثر على العلاقات الأوروبية – الأميركية، المحتقنة بالفعل في الوقت الحاضر، وقد تزداد احتقاناً في المستقبل القريب.
ثانياً: سيكون الموقف الصيني مدعاة لروسيا للمحاكاة، بمعنى أنه في ضوء التنافس الروسي – الصيني الخفي على الشرق الأوسط، والصراع مع أميركا على احتلال المقعد رقم 2 حول العالم، فإن موسكو – بوتين لن تترك الساحة الخليجية والشرق أوسطية فضاء مستباحاً للصينيين المزودين بقوة الردع النقدي، حتى وإن امتلك الروس قدراً كبيراً من الرؤوس النووية التي تكفي لإبادة العالم أكثر من مرة.
خلال العقدين الماضيين، وبترتيب وتدبير مسبقين من قبل الإيرانيين، عملوا جاهدين على تخليص بلادهم من عزلتها الدولية، الأمر الذي سار عبر تقوية وتمتين العلاقات الإيرانية مع الصين وروسيا بنوع خاص، والمعروف أن الصين بالتحديد كانت قد أعلنت عن أنها سوف تستمر في استيراد النفط من إيران، حتى بعد فرض الولايات المتحدة العقوبات على من يفعل ذلك بعد نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل.
تدرك الصين جيداً أن واشنطن في ظل ترمب سوف تمضي في مسار العقوبات الجمركية تجاهها إلى مدى بعيد، ولهذا فإنها ترسم سيناريوهات مستقبلية كثيرة، من بينها جعل إيران مصدراً رئيسياً للحصول على الطاقة اللازمة للثورة الصناعية الصينية من جهة، وسوقاً لتصريف منتجاتها من جانب آخر، عطفاً على الحصول على موطئ قدم في المياه الدافئة على الخليج العربي، وصولاً للمتوسط، مما يعني حصول بكين على امتيازات جيوسياسية تضعها ضمن الدائرة الضيقة من الأقطاب العالمية المهيمنة على مقدرات الكون في العقود المقبلة.
ومع أن الصين وافقت في عام 2010 على العقوبات التي فرضها مجلس الأمن على إيران، فإنها ومن باب الازدواجية الدولية التقليدية استمرت في التعاطي من الأبواب الخلفية مع نظام طهران، مستفيدة بذلك من عزلة الإيرانيين حول العالم.
عرف الصينيون دائماً وأبداً بحكمة كونفوشيوس. والآن، جاء وقت الاختبار الحاسم والحازم لوضع إيران عند حدها.