تحت سقف الصراع الروسي الأميركي واتساع رقعة التنافس على النفوذ بين الدولتين الكبريين في الإقليم، يفرض سياق الأحداث في الأسابيع الأخيرة التفتيش عن نقاط التلاقي والتوافق، سواء تحت الطاولة أم فوقها أم تقاطع المصالح، بين القوتين الكبريين.
من التبسيط بمكان تصنيف كل ما يدور في الإقليم على أنه بسبب الصراع بين موسكو وواشنطن. ومن التبسيط أيضا اعتبار تحالفات كل منهما، على أنها تنسحب على الأزمات كافة. والبراغماتية الروسية باتت لا تقل عن تلك التي يمارسها الأميركيون. وبرهنت الوقائع على أن ما يبدو حلفا استراتيجيا بالنسبة إلى موسكو أو واشنطن مع دول أخرى في الإقليم، تصنف في خانة الخصومة مع إحداهما، ليس ثابتا على الإطلاق.
من نافل القول إن سياسات الدولتين تتقاطعان عند حفظ مصالح إسرائيل الأمنية في المنطقة، بينما الدولة العبرية، حتى إشعار آخر، خصم شرس للحليف الإيراني لروسيا. وفي ظل العقوبات على طهران يصعب عليها أن تذهب نحو تفاوض تُبادل فيه ضمانها لأمن إسرائيل، مقابل إجازة توسعها في سورية، في وقت أحد أهداف العقوبات، إخراجها منها.
أكثر ما يفرضه التقاطع في المصالح بين روسيا وبين الولايات المتحدة هو حتمية التعاون في الميدان السوري من أجل تجنب اندلاع صدام عسكري واسع، يؤدي إلى تورط موسكو وواشنطن فيه، قد ينجم عن المواجهات شبه اليومية التي تقودها إسرائيل ضد جموح التوسع الإيراني. لذا هناك اختلاف في الأهداف، يضع موسكو وطهران في حال افتراق بالأولويات والوسائل والأدوات، على رغم حاجة كل منهما للآخر في الميدان. وقد يكون الأمر أكثر من ذلك بالنسبة إلى موسكو حين يتعلق الأمر بالبعد الاستراتيجي للسيطرة على سورية. وإذا كان الكرملين مطمئنا إلى التسليم الأميركي بنفوذه على سورية، وبالتالي إلى الشراكة معه في الشرق الأوسط أيا كان تقاسم هذا النفوذ لاحقا، فمن المؤكد أن فلاديمير بوتين ليس مطمئنا إلى نوايا إيران فيها. لسان حال بوتين أنه لولا تدخله في سورية في أيلول 2015 لكانت إيران خارج سورية حكما الآن. فحين تدخل هو كان جماعة إيران وبعض المقربين من النظام يهربون «كالأرانب» من دمشق. لكن الإصرار الإيراني على اقتطاع حصة الأسد من إنجاز الإبقاء على بشار الأسد في السلطة، بات يؤرق الدب الروسي، الذي قام في السابق بخطوات تحد من تغلغل طهران في الجيش والاقتصاد والإدارة السورية، من دون أن ينجح في الحؤول دون هذا التغلغل على الأصعدة الدينية والثقافية والتعليمية والجغرافية، وعلى صعيد الإفادة من بعض أوجه النشاط الاقتصادي، عبر التهريب والاشتراك في بعض مشاريع الإعمار المحدودة التي تتيح التهرب من العقوبات من جهة والمرتبطة بالفرز العمراني والديموغرافي والطائفي من جهة ثانية.
القلق الروسي من سياسة طهران في سورية يشكل نقطة التقاء مع الأميركي، يتجاوز تقاطع المصالح مع الولايات المتحدة في حفظ أمن إسرائيل. وزوار موسكو باتوا مقتنعين أنه يستحيل على قيادتها قبول وضع اليد الإيرانية على سورية لأسباب استراتيجية. فترسيخ الدور الإيراني يزيد الفرز المذهبي السني الشيعي فيها، وعلى الصعيد الإقليمي. وإذا كان هذا الفرز سيستمر تحت نظر الروس، سيحصدون أضراره على علاقاتهم بسائر الدول العربية ولاسيما الخليجية، ويشكل أرضية لامتداد صراع يمس بأمن روسيا ذاتها، على المديين المتوسط والبعيد. عندها يصبح الهدف الذي وضعته لتدخلها في سورية، أي استعادة دورها الإقليمي والدولي وبالاً عليها، بدلا من أن يكون مصدر فائدة استراتيجية بالمعنى العسكري، وبالمعنى الاقتصادي. فما فائدة أن تكون شريكا مسلّما به من الغرب في تحديد مصير المنطقة، وأن تتحول شريكا رئيسا في التحكم بسوق النفط والغاز العالميين بعد أن أصبحت فاعلة في استغلال الاكتشافات الجديدة في البحر الأبيض المتوسط لعصب الطاقة العالمي، كما هو حاصل الآن، إذا كانت إنجازات بوتين العسكرية وتحالفاته ستأتيها بالإرهاب الناجم عن تفاقم الصراع المذهبي؟
ليس عن عبث أن تتشدد موسكو راهنا في التعاطي مع وضع إدلب وأن يكون هاجسها التخلص من هيمنة «هيئة تحرير الشام» (النصرة سابقا) على جزء واسع منها. لكنها باتت على قناعة بأن معالجة وضع إدلب بالتنسيق مع تركيا على الصعيدين العسكري والأمني، يجب أن يوازيها ولوج الحل السياسي الذي يتطلب مساومة مع واشنطن والاتحاد الأوروبي على أساس القرار الدولي 2254 الذي يفرض انتقالا سياسيا وعدم الاكتفاء بالتلهي في الخلاف على تشكيل اللجنة الدستورية. وهو ما تعاكسه طهران بقوة، فتجمع روسيا مع أميركا وأوروبا والعرب ضدها.