يقول المثل العربي الشهير «إذا كان بيتك من زجاج فلا ترمِ الناس بالحجارة»، وفي الأيام العشرة الأخيرة رُجم النظام الإيراني بحجارة مواطنيه، الذين تسببوا له بفضيحة تاريخية طالت هيبته وشرعيته، فالهيبة التي حاول النظام فرضها طوال 39 سنة أسقطها المحتجون الشباب بالضربة القاضية، بعدما اجتازوا كل الخطوط الحمر التي عمل النظام على ترسيخها في الداخل والخارج، لم يُعر المحتجون أي حساب لسطوته وجبروته، ولم يترددوا في نزع القداسة عن رموزه، والمجاهرة برفض شعاراته ومشاريعه، واعتبارها أساساً في معاناتهم. في الأيام العشرة الأخيرة لم يجد نظام الملالي وجهاً مناسباً يخاطب الشارع المنتفض ويخطب وده، لم يجرؤ الجنرال قاسم سليماني الذي اعتاد على التقاط الصور وسط ميليشياته في صحاري العراق وسوريا أن يستثمر إنجازاته الخارجية في التأثير على مواقف المحتجين الجائعين، بسبب مغامراته التوسعية، فشل النظام حتى في تقديم كبش فداء يُرضي به المحتجين، حاول جس نبض الشارع ورد فعله لو أقدم على اعتقال الرئيس السابق أحمدي نجاد، ولكن على ما يبدو اكتفى بالإشاعات، لأن اعتقاله إدانة له ومكسب مجاني للمعارضة. وتحولت الاحتجاجات بعد اتساع رقعتها إلى استفتاء شعبي حول شرعيته، فاستنفرت أجهزته الإعلامية والتنظيمية من أجل تثبيتها، وأطلق المظاهرات المؤيدة له، ودفع برموزه السياسية والدينية إلى تشويه صورة المحتجين واتهامهم بالعمالة للخارج، لكن في ذروة تشكيكه في شرعية المتظاهرين، رفع المحتجون في مدينتي قُم ومشهد شعارات تجرده من شرعيته، وتضرب البعد العقائدي في بنيانه، بعد أن طالب المحتجون علناً هناك بإلغاء ولاية الفقيه، وهتفوا للجمهورية الإيرانية فقط دون الإسلامية. فمنذ سنوات كان الاعتقاد السائد أن قُم ومشهد مواليتان للنظام باعتبار أنهما تمثلان مركز ثقله العقائدي الذي يعتمد عليه في تكريس شرعيته، حيث يوجد في قُم المدارس الدينية وهي معقل كبار آيات الله المؤيدين له، أما مشهد إضافة إلى دورها الديني والعقائدي فإنها أيضاً مسقط رأس المرشد السيد علي خامنئي واثنين من كبار قادة المحافظين، آية الله علم الهدى، ومرشح المحافظين الفاشل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة السيد إبراهيم رئيسي.
مع تسارع الأحداث ظهرت سريعاً علامات الإرباك داخل أجهزة النظام ومراكز صنع القرار الذين رفضوا تقديم أي تنازل ملموس للمحتجين، وأصروا على التعامل أمنياً مع قضية معيشية، مكتفين بتحويل المدن الإيرانية الكبرى إلى ثكنات عسكرية لمنع قيام مظاهرات كبرى وتطويق الاحتجاجات وفضها بالقوة، معتقدين أنهم نجحوا في إخمادها بعد أن ضعفت وتيرتها في اليومين الأخيرين. ومع بداية الأزمة بدا النظام بكل أجنحته متماسكاً وموحداً، ولكن عندما قرر أحد أطرافه إعلان انتصاره وتمسكه بممارسة السلوك نفسه مع الداخل وفي الخارج، أخرج الرئيس حسن روحاني الماء من فمه واتهم من يريدون فرض رؤيتهم على جيل الشباب بالمسؤولية عمّا وصلت إليه الأوضاع السياسية والاقتصادية، واصفاً من يختزلون الاحتجاجات بالمطالب الاقتصادية فقط بأنهم يهينون الشعب الإيراني، مطالباً القيادة الإيرانية بتقبل الانتقادات التي وجهت إليها، وهي إشارة مباشرة منه إلى دور المرشد ومسؤوليته عن تفاقم الأوضاع في إيران، ففي اللحظة المناسبة التقط حسن روحاني الفرصة ليعلن تمايزه عن النظام، بعدما كشفت الاحتجاجات عن مدى إفلاسه وهشاشته، وأصبح الحديث عن مستقبله القاتم وفقاً للمعطيات الداخلية والخارجية التي تدور بأغلبها في المدى المنظور، وذلك نظراً لما كشفته الاحتجاجات من هوة طبقية بين الشعب والنظام والاتساع الأفقي للاحتجاجات، فيما الانقسام العمودي بين الثورة والدولة يعمق، بعدما فشل التيار المحافظ في إضعاف روحاني واتهامه بالفشل، وفي المقابل نجح روحاني في استثمار تردد الحرس والباسيج في الانخراط الكامل بعملية القمع، تجنباً لردود فعل الشارع، التي ستتحول بنظرهم إلى مكاسب شعبية لحسن روحاني، الذي التقط زمام المبادرة وبدأ يرسم خريطة الطريق لمستقبله ومستقبل موقع الرئيس الجمهوري الذي يحتاج إلى مزيد من الصلاحيات الدستورية، التي تمنحه القدرة على اتخاذ القرار بعيداً عن هيمنة المرشد، الذي طرح الشارع السؤال علانية حول شرعيته، بينما يعتمد روحاني على شرعية شعبية منحته إياها نتائج الانتخابات الأخيرة.
إيران التي خفت فيها وتيرة الاحتجاجات هي معرضة في أي لحظة إلى انتفاضة أشد عنفاً وأكثر اتساعاً بعد انكسار هيبة النظام وضياع شعبيته، وأصبح تحت ضربات الشارع كالزجاج الذي تعرض لرشقات من الحجارة، تسببت بتشققات كبيرة فيه وبقي متماسكاً، لكنه لا يقوى على مقاومة أدنى ضربة، حيث سيسقط بالكامل مهشماً ولا مجال لترميمه أو إعادة سبكه.