IMLebanon

إيران: اختطاف المشهد الإقليمي

مما لا شك فيه أن نظام ملالي طهران يختطف المشهد الإقليمي٬ عبر أدوات التشغيب السياسي واستغلال رافعة الطائفية٬ ومحاولة الاستفادة من مساحة الهدنة التي منحها الاتفاق الأميركي بشأن التسليح النووي٬ ورفع الحظر الاقتصادي عنها.

هذه التحولات في الموقف من «إيران» لم تقف عند حدود الارتباك الأميركي٬ بل انعكس ذلك على تلقي كثير من الدول العربية٬ وحتى بعض دول الخليج٬ الإشارات الأميركية على نحو خاطئ ومتعجل٬ على الأقل إذا ما أخذنا في الاعتبار أن جزًءا كبيًرا من الاتفاق الغربي الإيراني هو في إطار الاقتصاد السياسي٬ وليس العلاقات الدولية٬ بما تفرضه الأخيرة من صيغة توافقية تفصيلية٬ وليست مرحلة تجريب نيات واختبار لمصداقية روحاني التي يروج لها باعتبارها نهًجا وسلوًكا جديًدا لإيران اليوم.

ما يتغافل عنه المتساقطون سريًعا في أحضان دعاية نظام طهران٬ وهم في الأغلب يتحركون بناء على مزيج من النيات الحسنة والاعتراف بحجم التأثير المحدود٬ هو أن التسوية الجديدة المشروطة ولدت بعد التسوية الدولية حول السلاح الكيماوي السوري. وبالتالي٬ فالإخفاق في التوصل إلى تسوية شاملة لتجنب الحروب في المنطقة٬ وهو هدف إدارة أوباما النهائي٬ يعني انهيار هذه الحفلة٬ ودخول المنطقة في أتون نزاعات سياسية قد تؤدي إلى حرب ما٬ وهو ما نشهده في الجحيم السوري٬ حيث الحرب التي لا تنتهي٬ ولا تبشر بخلاص للشعب السوري المغلوب على أمره.

الهروب من أي مغامرة عسكرية شكل الدافع السياسي لتحويل جبهات الصراع في المنطقة إلى رساميل سياسية يمكن اللعب والتحكم فيها٬ فالخوف من تبعات العمل العسكري ضد إيران٬ وانهيار ميزان التوازنات الإقليمية٬ واستعادة إيران عافيتها سريًعا٬ وتحولها لدولة نووية في حال كانت فشلت الضربة٬ إضافة إلى أن قيادة المفاوضات من قبل الولايات المتحدة سيجعلها في موقع تفاوضي مباشر يضغط على إيران من جهة٬ ويحاول إقناع الحلفاء بإيجابيات المرحلة المقبلة.

آلة الفراغ السياسي الذي يتحمل المجتمع الدولي والولايات المتحدة الجزء الأكبر فيه بسبب قدرتها على التأثير وحشد قرار سياسي دولي٬ هو ما يخلق ربيع الميليشيات التي تحول مكونات اجتماعية إلى مجموعات مسلحة قادرة على التأثير. وبالتالي٬ فحتى مع التخلص من «داعش» وأخواتها٬ ولو عبر طائرات بلا طيار أو حرب استنزاف٬ لا يعني نهاية القصة مع بقاء مسببات بقاء العنف بالبحث عن أعذار وحيل لاستمرار النظام السوري الذي تفوق استخباراتًيا في لعبة الكراسي بين الميليشيات والقاعديين٬ وهي حالة كان أيًضا يديرها بجدارة النظام اليمني السابق على طريقة الحاوي والثعبان٬ وهو ما جعل من الصعوبة السيطرة على الحالة المسلحة ومنطق الميليشيا في اليمن بعد رحيله.

الحفاظ على مكون الدولة مهمة صعبة٬ تحتاج إلى تفهم ودعم دولي٬ وفي نفس الوقت بحاجة إلى فهم المكونات السياسية٬ لا سيما المعارضة٬ لفهم ما سيحدث حال انهيار الدولة٬ هذا الفهم والتفهم غائب في مواقع كثيرة من دول ما بعد الربيع العربي٬ لكنه الأخطر والأكثر قتامة في «أم الدنيا»٬ حيث ينزلق منطق الدولة إلى الميليشيا٬ وتساهم المعارضة في تقويض الدولة ذاتها عبر مثاليتها السياسية.

وإذا كانت إيران قد استفادت سابقا من تأثيرات ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)٬ بعد أن ساهم بعض الإعلام الغربي في تصوير الإرهاب على أنه نسخة سنية محضة٬ والنظر إلى الإسلام السياسي الشيعي على أنه بديل آمن يمكن السيطرة عليه من خلال التفاوض مع قياداته٬ فإن أحداث الربيع العربي ومآلات الفشل ساهمت بشكل كبير في إبقاء إيران في الواجهة٬ بعد أن حرصت طهران على زيارة بلدان ما بعد الربيع العربي كتونس وليبيا٬ وتقديم نفسها على أنها نموذج سياسي قادر على مد يد التعاون والتحالف.

وهناك سيناريو قريب يطرحه الخبراء في السياسة الإيرانية٬ يتحدث عن حالة كمون وترقب لأوضاع الإقليم في حربه على «داعش»٬ وفي انهيار أنظمته السياسية في دول ما بعد الربيع العربي٬ مع تكريس الجهد للعب دور أكبر في آسيا الوسطى٬ بناء على حسابات الأوراق الجيوسياسية الرابعة٬ وهو ما يعني أدواًرا أكبر في أفغانستان وآسيا الوسطى٬ كازاخستان وأوزبكستان وبقية الدول المتذررة من الاتحاد السوفياتي سابقا.

لدى إيران أولوية الآن تدفعها للتضحية بالسلام الإقليمي٬ وحتى لتحمل أكبر قدر من الهشاشة الاقتصادية في سبيل أولوية امتلاك السلاح النووي٬ ولا شك أن انخفاض أسعار النفط سيساهم في منحها موقًعا تفاوضًيا٬ وتسريع إيقاع المفاوضات حول الملف النووي الذي يحتل موقع جدل كبير بين مختلف التيارات في طهران٬ ومن المعلوم أن المرشد  الأعلى خامنئي واحد من أكثر المدافعين عن الحق النووي٬ وأنه سيفتح المجال لإعادة موضعة طهران بوصفها قوة عظمى بامتدادات واسعة في آسيا وأفريقيا٬ وصولاً إلى مناطق جديدة كاليمن وشمال المغرب. ومن هنا٬ تم طرح مصطلح «اقتصادات المقاومة» القائمة على طرح التقشف خياًرا اقتصادًيا أشبه بالسلاح الذي تقاوم فيه الإمبراطورية الفارسية تقلبات أسعار النفط والمتغيرات السياسية.

الإشكالية أن شعار «اقتصادات المقاومة» لا يمكن أن يكون فعالاً على الواقع٬ مع انخفاض أسعار النفط الذي يرشح العملاء للانتقال إلى مواقع أخرى٬ وحتى محاولة بيع النفط بشكل غير معلن يعني أسعارا أقل. وبالتالي٬ تراجع الأداء الاقتصادي العام على مستوى الاستفادة من إيرادات النفط٬ فضلاً عن الحاجة الملحة لتطوير قطاع النفط وصيانته.

ويطرح فريق روحاني مسألة دعم رؤية المرشد حول «اقتصادات المقاومة»٬ رغم معارضة الرأي العام الذي يرى أن هذه الشعارات لم تغير من الواقع المتردي اقتصادًيا٬ الذي قد يفتح باب الاضطرابات والاحتجاجات الجمعية رغم ما يبدو للخارج من تماسك الداخل الإيراني.

ولا شك أن امتلاك طهران السلاح النووي سيمنحها قوة إقليمية تتوافق مع خطتها لبناء محور وهلال مواٍل لها على طول الشريط الحدودي من العراق لسوريا٬ وصولاً إلى اليمن وإلى القرن الأفريقي.

مفاوضات الغرب مع إيران الدولة لا تعني توقف نشاط إيران الثورة٬ فهما وجهان منفصلان عن بعضهما٬ ويمثل وجه الثورة الجزء الغامض الذي يقبض عليه فيلق الحرس الثوري المتحكم في الجيش والبرنامج النووي وجزء كبير من اقتصاد إيران٬ ووحده هو المؤهل لتنصيب سلطة المرشد الذي لم يعين له نائًبا٬ كما هو الحال مع الخميني٬ في إشارة إلى إطلاق باب التكهنات حول تغييرات في شكل السلطة وبنيتها.

من الضروري اليوم على دول الخليج بقيادة السعودية أن تدرك ازدواجية معايير طهران وهي تمارس ألعابها السياسية باستذكاء٬ في ظل هشاشة الحالة السياسية إجمالاً٬ ويجب أن نعلم أن قناع الثورة هو أداة حشد وتعبئة قادرة على استقطاب المتعاطفين٬ وتعبئة الشيعة العرب المعتدلين للانتقال من مربع التشيع المذهبي إلى التشيع السياسي٬ إلا أنه أكثر نجاعة في استقطاب شخصيات خارج مربع المذهب٬ كما هو الحال الآن في موجات التشيع التي تغزو المغرب العربي٬ وكلها قائمة على استبطان الوجه الثوري لإيران٬ وليس معّبًرا عن قناعات دينية مبنية على تفكير حر وخيارات شخصية. ومن هنا٬ فالتركيز على السياق الديني في نقد طهران يعطيها المبرر لمظلومية كهذه٬ والعكس بالعكس تعرية المشروع الانقلابي الإيراني عبر استنبات ميليشيات مسلحة ودولة عميقة داخل الدولة أكثر نجاعة من الدوران في فلك المفاهيم الدينية التي تستخدم كأداة تعبئة٬ وليس كهدف نهائي.