عاد وزير خارجية فرنسا لوران فابيوس خالي الوفاض من زيارته الرسمية الاولى الى طهران في ما خصّ ملفات المنطقة المعقدة وفي طليعتها الملف اللبناني.
صحيحٌ أنّ فابيوس لم يسمع كلاماً سلبياً أو رافضاً، لكنه في الوقت نفسه لم يسمع كلمة واحدة إيجابية أو يمكن التعويل عليها. بدورها فإنّ باريس لم تكن تتوقع الحصول على حلول سحرية وفورية للملف اللبناني، لكنها كانت تأمل استناداً الى المشاورات الجانبية التي جرت على هامش المفاوضات حول النووي، أن يساعد المسؤولون الإيرانيون في إيجاد فجوة ما في الجدار السميك للأزمة اللبنانية يسمح لاحقاً بالشروع في ابتكار حلول تسووية.
لكنّ لطهران حسابات مختلفة. فهي تدرك أنّ الساحة اللبنانية جزءٌ من الساحة الاقليمية المشتعلة منذ فترة طويلة، وأنّ الحلول اللبنانية مرتبطة بمصير الحرب الدائرة في سوريا، وأنّ واشنطن وحدها قادرة على إدارة هذه المفاوضات ما يستوجب انتظار تحرّك العملاق الاميركي.
صحيحٌ أنّ فابيوس كان قد مهّد لزيارته بانتزاع تفويض من الدول الخمس الى جانب بلاده، لكنّ التفويض لا يعطي كامل الصلاحية لتقاسم المصالح. الإدارة الأميركية تبدو غارقة الآن في انتزاع تأييد الكونغرس للاتفاق حول النووي مع إيران، ما يعني أنّ إيران لن تُقدِم على أيّ خطوة بانتظار تكريس الاتفاق دستورياً في الولايات المتحدة الأميركية. وهنا بيت القصيد.
والواضح أنّ وزير الخارجية الأميركية جون كيري والذي يزور مصر ودول الخليج يعمل على تحصين الاتفاق النووي من خلال طمأنة دول الخليج المعترضة والمتوجّسة من الدور المستقبلي لإيران، لكنه في الحقيقة يسعى الى تخفيف الاندفاعة الخليجية في الداخل الأميركي من خلال الضغط على قطاع النفط الأميركي الفاعل والقوي وتوظيفه في معركة إسقاط الاتفاق.
المعركة محتدمة في واشنطن خصوصاً أنّ مهلة الستين يوماً تنتهي في 17 أيلول المقبل. أخصام الاتفاق يحشدون لقوّتهم وكذلك أنصار الاتفاق.
من أخصام الاتفاق خصوصاً اللوبي اليهودي الذي يعمل بقوة داخل أروقة الكونغرس. يومَ الاربعاء الماضي في 29 تموز عقدت ندوة لرؤساء المنظمات اليهودية في نيويورك شارك فيها أمين عام وزارة الخارجية الاسرائيلية دوري غولد الذي أدهش المشاركين بكلامٍ جديد وصاعق.
فغولد الذي كان أصدر في العام 2003 كتاباً يتهم فيه السعودية بدعم التطرف ورعاية الارهاب قدم محاضرة أكدت على ضرورة تبديل معطيات الماضي والتأكيد على وجوب التحالف مع الدول العربية السنّية التي تواجه إيران.
في المقابل اختار فريق باراك أوباما مواجهة اللوبي اليهودي من داخل البيت. لذلك أرسل خمسة سفراء اميركيين عملوا سابقاً في إسرائيل رسالة الى الكونغرس يبدون فيها دعمهم للاتفاق الذي يشكّل مصلحة راسخة للسلام في الشرق الأوسط. وهؤلاء السفراء هم: جيمس كونينغهام، وليام هاروب، دانيال كارتزر، تومس بيكيرينغ وادوارد والكر.
وجلّ هؤلاء من الطائفة اليهودية إضافة الى أسماء معروفة بصداقتها لإسرائيل مثل مساعد وزير الخارجية السابق للشؤون السياسية وليم برنز ومساعد وزير الدفاع السابق للشؤون السياسية فرانك ويسنر.
والشهادة الأهم في تأييدها للاتفاق جاءت على لسان رئيس أركان الجيوش الأميركية الجنرال مارتن ديمبسي أمام الكونغرس بحضور وزيرَي الدفاع والخارجية.
باختصار واشنطن غارقة في المواجهات الداخلية حول الاتفاق بانتظار انقضاء مهلة الستين يوماً في 17 ايلول المقبل. في المقابل لا يبدو الوضع داخل إيران أقل سخونة. فصحيحٌ أنّ الرئيس الإيراني أعطى موافقته على الاتفاق بعد نيله بركة مرشد الجمهورية، لكنّ الصراع الداخلي قائمٌ حول مرحلة ما بعد الاتفاق.
التيار المحافظ وعلى رأسه السيد خامنئي الذي وجد في الاتفاق مخرجاً ملحّاً للأزمة الإقتصادية الداخلية ومدخلاً لتكريس دور إيراني كبير في الشرق الاوسط، هذا التيار يخشى النوايا الأميركية التي تريد من خلال انغماسها في القطاع الاقتصادي الإيراني تعزيز جماعة البازار (التجار) ورجحان كفة أصحاب المصالح الاقتصادية على حساب جماعة العقيدة والذين يتمركزون بالقرب من خامنئي وداخل الحرس الثوري.
لذلك كان لهذا الفريق كلامٌ متشدِّد بعد التوقيع على الاتفاق حيث جرت مهاجمة سياسة واشنطن على أساس أنها الشيطان الأكبر الذي يجب الاستمرار في محاربته. بما معناه إبقاء الهدف الأول لجماعة العقيدة فوق أيّ مصلحة أخرى. وحزب الله الذي ينتمي الى هذه المجموعة يحمل إشارات القلق نفسها.
هو يدرك أنْ لا مجال لأيّ تسوية مع إيران على حسابه، بدليل أنّ كلمة السيد خامنئي بعد التوقيع على الاتفاق أتى فيها على ذكر «حزب الله» بما يعني أنّ وجوده خارج أيّ صفقات أو نقاش حتى.
لكنّ هذا المبدأ بحاجة لتدابير حماية لا يمكن تأمينها إلّا عبر التفاوض ومع طرف واحد وحيد وهو الولايات المتحدة الأميركية. من هنا تنتظر إيران بدورها تاريخ 17 ايلول لتباشر الديبلوماسية الأميركية تحركها بعد حيازة لاتفاق على كامل المتطلبات الدستورية كما هو متوقع إلّا في حال حصول تطوّرات غير محسوبة وغير متوقَعة.
وفي المقابل تبدو واشنطن والتي تراقب بدقة الانقسام الإيراني الداخلي متفهمة لإشارات القلق الصادرة عن فريق المحافظين أو مجموعة العقيدة ومعه حزب الله والكلام الصادر عن أمينه العام السيد حسن نصرالله.
وتدرك واشنطن أنّ طهران تسعى لضمانات ثابتة للحزب بعضها في سوريا وبعضها الآخر في لبنان والأهم أنّ الإدارة الأميركية تبدو مرنة تجاه هذه المطالب مثلاً فإنّ وزير الخارجية الأميركية كان قد أعلن في مرحلة سابقة ما يشبه التعهّد ببقاء الرئيس السوري بشار الاسد في السلطة في هذه المرحلة على الأقل. كذلك فإنّ واشنطن لم تبدِ أيّ اعتراض على سعي حزب الله والجيش السوري إحاطةَ كامل الحدود اللبنانية بالنفوذ العسكري السوري الصافي كما أنها لن تعترض قريباً على إنهاء وجود التنظيمات المتطرّفة في عرسال وجرودها.
والإدارة الاميركية تدرك أيضاً أنها ليست هي فقط مستعجلة لإنجاز تفاهمات خصوصاً في سوريا ولبنان، بل إنّ طهران تدرك أنّ هذه الإدارة قد تكون أكثر ليونة من إدارة جمهورية قد تأتي بها الإنتخابات الأميركية العام المقبل.
لذلك تبدو الأوساط الديبلوماسية الأميركية تميل الى إمكانية حصول تسوية رئاسية في لبنان ينطلق مسارها في أيلول المقبل وتنتج رئيساً توافقياً قبل نهاية العام الجاري، إلّا إذا طرأ ما ليس في الحسبان لأنه يجب أن نتذكر دائماً أننا في الشرق الأوسط أرض المفاجأت.