IMLebanon

حرب إيران و«الحشد الشعبي»: «داعش» ضد «داعش»

ليست المسألة مثيرة فحسب لحساسيات الدول العربية المشاركة في «التحالف الدولي ضد الإرهاب»، ولا هي تتعلّق فقط بـ «عدم تنسيق» معلن و»تنسيق» فعلي غير معلن بين الولايات المتحدة وإيران، بل إنها مسألة خداع تتعرض له كل دول «التحالف». والأهم أنها ترتبط في شكل وثيق بإمكان نجاح أو فشل «الحرب على داعش» ليس فقط في جانبها العسكري الراهن بل خصوصاً في شقّها السياسي – الاجتماعي بعيد المدى. فكل الدول متفقة، أو أنها على الأقل تعرف، أن إيران لعبت «ورقة» الإرهاب لتدعيم نفوذها في العراق وسورية وتلعبها الآن لحماية هذا النفوذ. وبالتالي فهي أولت الجو إلى مقاتلات «التحالف» فيما تفلت ميليشياتها على الأرض، وها هي تقحم أيضاً طيرانها. أما «النفوذ» فهو ما رأيناه من تخريب للدولة والمؤسسات والاقتصاد والعمران والثقافة والتعايش بين مكوّنات الشعوب في العراق وسورية ولبنان واليمن و… قطاع غزة (بدور إيراني مكمّل للتخريب الإسرائيلي).

لم يقل الأميركيون لماذا أخفوا علمهم بالتدخل الإيراني المباشر في الحرب. ولم يوضحوا، بعد انكشافه، لماذا كانت لديهم أكثر من إجابة مرتبكة، صحيحة أو كاذبة. ولو لم تظهر طائرة «فانتوم اف-4» الإيرانية على قناة «الجزيرة» وهي تقصف في ديالى، هل كان الأميركيون سيواصلون التغاضي عن التدخل. وبعدما أصبح معروفاً قال ناطق البيت الأبيض: «لم تتغير تقديراتنا في شأن دواعي التعاون مع الإيرانيين. لن نفعل هذا». أما «البنتاغون» فترك لـ «مصادر» تأكيد الواقعة في شكل غير رسمي، قبل أن يعود فيؤكدها. وأما وزير الخارجية جون كيري الذي كان يترأس اجتماعاً لنظرائه من دول «التحالف» في بروكسيل، فقال أولاً: «لن أعلن عن أي شيء، لن أؤكد أو أنفي العمل العسكري الذي تردد أن دولة أخرى نفذته في العراق. هذا يرجع إليهم (الإيرانيين) أو العراقيين إذا كان هذا قد حدث بالفعل». وفيما أفاد حيدر العبادي أن «لا معلومات» لديه، وهو «القائد الأعلى للقوات المسلحة» في العراق، كان مستغرباً أن يتحدث كيري عن «دولة أخرى» أو يقول إن الأمر «يرجع إليهم»، إلى أن أفصح عن حقيقة الموقف الأميركي، معتبراً أنه «إذا كانت إيران تستهدف تنظيم الدولة الإسلامية في أماكن معينة ويقتصر دورها على استهداف تنظيم الدولة الإسلامية وهو أمر مؤثر وسيكون مؤثراً… فإن المحصلة النهائية إيجابية»… وطالما أن الأمر «يرجع اليهم» فهذا يعني أن هذه الحرب ذات مسارين، أميركي وإيراني، وكلاهما يخدم التقارب المتعاظم بين «الشيطانَين» الأكبر والأصغر.

ليس مؤكداً أن المحصّلة النهائية ستكون «إيجابية»، إلا إذا كان كيري مصمماً على جهل ما حصل في العراق وتجاهل الدور الإيراني الذي صنع ظروف نشأة «داعش» وبروزه. بدا كيري أكثر حرصاً على تثبيت «الإيجابية» في علاقته مع نظيره الإيراني خلال المفاوضات النووية أخيراً. وهو ما ردد محمد جواد ظريف صداه متوقعاً «نهاية ناجحة» للمفاوضات، وكذلك الرئيس حسن روحاني متحدثاً عن «الحاجة إلى إيران من أجل أمن المنطقة والعالم». ويمكن إجمال هذا المناخ بأن طهران تشعر للمرة الأولى منذ عقود بأنها حققت «اختراقاً» سياسياً مهماً في الموقف الأميركي المناوئ لها من دون أن تضطر إلى تنازلات جوهرية. لكن هذا التطوّر الذي يريد كيري تصويره على أنه «إيجابي» بالنسبة إلى مجريات الحرب يرمي عملياً إلى ترسيخ الأمر الواقع الإيراني على الأرض، في العراق كما في سورية، بما فيه من مخاطر وألغام، وبما فيه أيضاً من إحباط للعرب المشاركين في محاربة «داعش».

ذاك أن طهران تسعى إلى إظهار هزم هذا التنظيم على أنه «انتصار إيراني» لن يراه أتباعها وخصومها إلا بأنه «انتصار شيعي على السنّة»، وبالتالي فإن إيران تستحقّ أن تُكافَأ عليه بالاعتراف لها بنفوذ دائم يقوم على إخضاع اتباع مذهب آخر سواء كانوا غالبية أو أقلية. فهذا كان ولا يزال منطق النظامين «الداعشيين» الإيراني والسوري في حربهما داخل سورية قبل استدعائهما «داعش» وبعده، بل هذا ما ظهر جلياً في حرب نوري المالكي على المحافظات السنية، وما تبدو إيران وميليشياتها العراقية في صدد استكماله تحت شعار «محاربة داعش»، أو بالأحرى «داعش تحارب داعش». إذ أن «داعشيي» ما يسمّى «جيش الحشد الشعبي» يرتكبون حالياً انتهاكات مشينة في قرى وبلدات سنّية، مشابهة بل مطابقة تماماً لما يرتكبه «داعش» ولما كان يرتكبه «جيش المالكي». وبطبيعة الحال فإن هذا النهج يؤسس أو يثبّت حالاً صراعية مستحيلة لعشائر السنّة بين «داعش» هجين كانوا تعايشوا قسراً وعلى مضض لكنهم حاربوه ويحاربونه بكلفة بشرية عالية، وبين «داعش» إيراني يرفضونه أيضاً وسيكون عليهم أن يحاربوه إلى ما لا نهاية.

هل يجب التذكير بالقواعد التي حددتها واشنطن، بلسان رئيس أركان جيوشها، لتدخلها في العراق ولخوض هذه الحرب، وأهمها: تشكيل حكومة تمثل جميع الأطراف، وإعادة هيكلة الجيش وتأهيله، والتعاون مع سكان المناطق الواقعة تحت سيطرة «داعش» أي العشائر. تغيّرت الحكومة وزار رئيسها طهران ليتعرف عن كثب إلى المسموح والممنوع، وإلى ما يستدعي العجلة أو الإبطاء. وفهم أن العراق صار إيرانياً ويجب أن يبقى كذلك، وأنه مقبول أميركياً بهذه الحال التي مسخته وابتذلته، وإذا أراد العرب (السنّة) الانفتاح على إيرانيته (شيعيته) فأهلاً وسهلاً. لم يعد هناك مجال لعراق يتمتع باستقلالية قرار أو بشيء منها (كما هو الواقع أيضاً في سورية ولبنان واليمن). أما بالنسبة إلى الجيش فيوحي الأميركيون بأنهم سيشرفون على إعادة هيكلته، كما تولوا تأسيسه وتدريبه، لكن هل يضمنون هذه المرّة أن الإيرانيين لن يعيدوا تهميشه وإفساده كما فعلوا بواسطة نوري المالكي، وكيف يضمن الأميركيون لهذا الجيش مكانته ودوره وتغليبه للدولة على الدويلات إذا كان الإيرانيون سبقوهم بتدريب ميليشيات وتسليحها لتكون أكثر قوة وفاعلية من أي جيش حكومي.

لكن الاعتماد على العشائر بنمط من «الصحوات» الجديدة بدا الملف الأكثر دلالة على شدّة التدخل الإيراني وجلافته. وعكست مماطلة حكومة العبادي ممانعة طهران لتسليح السنّة إلا إذا كانوا جزءاً من ميليشياتها، وقد تولّى هادي العامري قائد «فيلق بدر» إيضاح ذلك بقوله: «نعوّل على دعم مقاتلي العشائر السنّة، فبانضمامهم إلى القتال أصبح نصرنا مؤكداً»، غير أن العارفين يقولون أن الرجل توهّم أن يصبح وزيراً للداخلية وهو قائد ميليشيا ويتوهّم أن العشائر صاروا معه رغم أنهم يعتبرونه من «دواعش إيران». لكن العامري فسّر عملياً ما هو متاح للعبادي، فالمماطلة ترمي إلى منح إيران والميليشيات الوقت لـ «استمالة» السنّة وتيئيسهم من الحكومة ومن الأميركيين، فالخطر يدهمهم وليس لهم سوى الخيار الإيراني. لكن العشائر التي يئست فعلاً من العبادي، بادرت إلى مخاطبة الأميركيين مباشرة، سواء من خلال السفير في بغداد أو عبر وفد سنّي زار واشنطن أخيراً. وطالما أن الدفاع عن النفس بات شأناً يخصّهم، والحكومة غير متجاوبة، فقد طالب هؤلاء بأن تسلّحهم الولايات المتحدة مباشرة أسوة بما تفعل مع البشمركة الكردية طالما أن الدولة لا تريد ولا تستطيع الدفاع عنهم. في المقابل أطلق العديد من العشائر نداءات تطالب دولاً عربية بتسليحها، أما عشيرة البو نمر التي قتل «داعش» مئات من أبنائها خلال بضعة أيام فأعلنت أنها باعت أملاكاً لها في بغداد لتشتري أسلحة بما يصل إلى نحو مليون دولار… وإزاء هذا التحرك ظهر فجأة مشروع قانون «الحرس الوطني»، إذ سمح الإيرانيون للعبادي بإخراجه من درجه، والسبب أن «الحرس» صيغة أفضل من الصحوات، لأنها تتيح من جهة وضع أبناء العشائر في ملفات والاستدلال إلى نشطائهم، لكن الأهم من جهة أخرى أنها فرصة لإدخال «الحشد الشعبي» في هذا «الحرس» مع ما يعنيه ذلك من تمويل حكومي لميليشيات لم يعرف شبّانها في حياتهم سوى الولاء لإيران.