بعيداً عن القنابل الصوتية والدخانية التي يتنافس المسؤولون الايرانيون في إلقائها على حقل رماية العلاقات السعودية الايرانية بعد كارثة مِنى، فإن في أساسها تزاحماً غير مسبوق بين «جناحي» السلطة من المحافظين المتشددين، والمروحة الواسعة من المعتدلين التي تضم «الروحانيين» و»الرفسنجانيين» والاصلاحيين، للامساك بمواقع القرار، صياغة وتنفيذاً في السلطة، في وقت تقف الجمهورية الاسلامية في إيران، أمام مفترق طرق مصيري، لا يمكن الهرب منه ولا التهرب من استحقاقاته العاجلة. لذلك يعمل الطرف المحرج وهو من المتشددين ومعه قمة «جبل الجليد» من «الحرس الثوري»، على التصعيد في كل الاتجاهات.
الاتفاق النووي أصبح أمراً واقعاً. ارتدادات هذا الاتفاق تتجاذب جميع القوى. الرئيس حسن روحاني بكل ما يمثله ويجمعه، يعتبر أن كل يوم ينفذ فيه الاتفاق، يضيف الى رصيده نقطة ترفع من حظوظه في الامساك نهائياً بمجلس الشورى ومجلس الخبراء في الانتخابات القادمة. حتى خصومه يعترفون ضمناً أن المسار الحالي للتطورات يمنحه الفوز بنسبة 70 في المئة من نواب المجلس المنتخب.
لا شك أن إيران ربحت من الاتفاق دخولها النادي النووي السلمي، وهذا كسب كبير لا يمكن التقليل من حجمه. ربحت ايران شرعية العضوية بعد أن ضحت كثيراً بالمال والجهود. خطة ايران لتحقيق هذا الانجاز اقتضت منها اقتحام «الدوائر المشتعلة» في المنطقة لكي ترفع رصيدها السياسي على طاولة المفاوضات في فيينا. مهما بالغت طهران في إنكار ونفي الجمع بين الملف النووي والملفات الاقليمية، فإن الوقائع تؤشر الى المزج بين مطالبها النووية وحضورها الاقليمي، فربحت مهادنة الأميركي أولاً قبل الآخرين.
هذا «الربح» كلف ايران خسائر ضخمة. العقوبات جعلت اقتصادها «أعرج»، ومطالب الشعب الايراني في العيش الكريم امتحاناً يومياً لصبره ومعاناته. الأخطر أن الكلفة العالية للمشروع النووي والتسليح المتصاعد خصوصاً في ميدان انتاج الصواريخ، فتحا ثغرة لم يتم بسهولة سدها في «جدار» المجتمع الايراني، سواء بالفساد المالي الضخم (خصوصاً في القطاع المصرفي) وانتشار البطالة والتضخم والمستوى المتدهور للمعيشة يومياً. والتفكك العائلي والاجتماعي (انتشار زواج المتعة وصولاً الى الزواج الأبيض) الخ. كل هذه الأثمان تبقى قابلة للتعامل معها مستقبلاً مع استعادة ايران أموالها، شرط أن تصرف هذه الأموال على التنمية وبناء البنى التحتية المتهالكة، وليس الاستمرار في الضخ الخارجي للأموال المستعادة والناتجة عن عودة «عجلة» الانتاج خصوصاً النفطي منها الى «الخزينة الفارغة».
بالغ مسؤولون ايرانيون، خصوصاً في «الحرس الثوري» في وصف «انتصاراتهم» التي توزعت بين «الهلال الشيعي» و»الامبراطورية» والدفاع عن الحدود الايرانية بعيدا عنها بمئات الكيلومترات. في الفترة الأولى، بدت هذه «الانتصارات» حاصلة وأحياناً واقعية، حالياً يتبين أن «ناطحة السحاب» الايرانية قامت على أرض رخوة تكاد تهدد وجودها، أو على الأقل رفع كلفتها بما لا يعادل عائداتها. حسب القادة الايرانيين فإن نظام الولي الفقيه أمسك بالقرار في أربع عواصم عربية هي بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء. لكن ما حصل ويحصل في العواصم الأربع يثبت أن كثرة «الشراهة» تسبب الضعف، خصوصاً في عالم، التغيرات فيه أكبر بكثير من الثوابت.
في قلب هذه «الشراهة»«العقل الامبراطوري» العميق في «الشخصية الفارسية». لو اكتفت ايران بالنجاحات الأولى لكان فوزها حقيقياً وواقعياً. لكن لا شك أن نزول «القيصر» بقوة في سوريا ووضع «قدميه« في العراق قد أضعف إيران على الأقل في المستقبل المنظور. من ذلك:
[ سوريا: ابعاد الجنرال همداني، يؤكد فشل الاستراتيجية العسكرية التي صاغها الجنرال قاسم سليماني. همداني جنرال ميداني منفذ، تحول الى «كبش محرقة» لأنه حالياً لا يمكن لأسباب عسكرية وسياسية إبعاد سليماني. الأساس أن الاستراتيجية الايرانية فشلت في سوريا. نزول «القيصر» فلاديمير بوتين في سوريا بهذه القوة، جعله «شريكاً» قوياً لإيران. بهذا يكون خامنئي قد خسر رهانه، بالمحافظة على «سوريا المفيدة» والرئيس بشار الأسد معاً. كان يمكن للمرشد أن يربح أكثر في سوريا، لكنه رفض وبالغ في شروطه ومطالبه.
[ العراق: الخروج الأميركي من العراق، فتح الأبواب أمام انتشار إيران. مبالغة المرشد في التعامل مع العراق والعراقيين وكأنه في «حديقته الخلفية» أفقده «رجله» نور الدين المالكي وألهب المكوّن السني مع «داعش» وأرجع الأميركيين بطلب عراقي، وأدخل الروس من النافذة الأمنية ضمن اللجنة الأمنية أو ما يمكن تسميته بـ»حلف بغداد» الجديد. خامنئي تعامل مع الشخصية الوطنية العراقية القوية، وكأنها غير موجودة. خسر المرشد خامنئي الكثير في العراق. الأكراد خارج حساباته حتى لو بقيت علاقات إيران بهم قوية. السنة على عداء غير مسبوق يتجذّر يومياً، الشيعة يتململون. أي مسؤول عراقي يحسب حساباً للأميركي وربما غداً للروسي.
[ اليمن: إيران ربحت مع الحوثيين بعد أن تحالفت معهم. كان يمكنها الامساك بجزء أساسي من السلطة والقرار. لكن المرشد ومعه السيد حسن نصرالله أرادا تطوير الصيغة اللبنانية، بالإمساك بكل اليمن خصوصاً «باب المندب»، فكانت «عاصفة الحزم» التي قلبت كل المعادلات والحسابات الايرانية ودفعت طهران لاستبدال العدو الصهيوني في خطابها السياسي مع كل ما يعني هذا من تحول ايديولوجي خطير ومدمر، بالسعودية. ليس مقبولاً عربياً واسلامياً هذا الاستبدال المفخخ بأحلام «امبراطورية» غير قابلة للتنفيذ.
[ لبنان: دعم ايران لحزب الله في حرب التحرير حتى العام 2006 أكسبها الكثير من التقدير والتعامل العربي والاسلامي. انخراط ايران في «التدخل السلبي» في العالم العربي خصوصاً في «دوائر النار»، أفقدها تدريجياً «الثروة الشعبية» التي حصلت عليها، والتي تبددت كلياً (ما عدا حضورها في الطائفة الشيعية»). وما لم تخرج من حالة التدخل السلبي الى الايجابي، خصوصاً في مسألة انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية فإن كل الأموال التي تدفعها حالياً للقوى «الحليفة والرديفة لحزب الله« لن تعوض عليها حضورها القوي سابقاً في المكون الشعبي اللبناني والعربي.
خسائر ايران مفتوحة وليست محدودة. الخطوة الأولى في الحد منها تكون في ممارسة «التدخل الايجابي« بدلاً من السلبي، ويقوم هذا على التعامل مع «دوائر النار« العربية عبر الوزير جواد ظريف بدلاً من الجنرال قاسم سليماني والرجوع الى العداء لإسرائيل لا للسعودية.