لا بدّ أن الذين ساءهم توصّل الدول الكبرى الى الاتفاق النووي مع ايران كانوا يجدون مصلحة لهم في استمرار الأزمة والمفاوضات الى ما لا نهاية، ولعلهم تصوّروا أن تلك المصلحة هي في أن تبقى العقوبات ضاغطة على ايران ومحدّدة لقدراتها، خصوصاً بعدما أمكن استشعار أزمتها المالية سواء في تململات الداخل أو في تعاملها مع النظام السوري والجماعات التابعة لها، ومنها “حزب الله”. لكن أصحاب تلك “المصلحة” لم يحسنوا استثمارها ولم يستفيدوا منها عربياً (أو لبنانياً)، مع أن سياسة الاحتواء الاميركي – الغربي لإيران استمرّت نحو ثلاثة عقود ولم تمنعها من اختراق المشرق العربي و”تصدير الثورة” اليه، تسليحاً وشحناً مذهبياً وتمزيقاً للمجتمعات وتعايش مكوّناتها.
قبل أن تحتفل ايران بـ”انتصارها” في فيينا، كانت احتفلت بـ”انتصارات” سوداء عديدة، بدءاً من التغلغل في العراق والقبض على روحه وإفساد خروجه من الديكتاتورية، الى العبث بلبنان وتعطيل الدولة فيه بعد زجّه في حرب مدمّرة وصراعات أهلية، وصولاً الى الدمار الكبير في سوريا واليمن. تلك انتصارات جيّرتها ايران لـ”المقاومة”، بمعنى مقاومة اسرائيل واميركا، وبنتها على حروب أهلية وإلغاء للدولة واستدعاء للارهاب والتطرّف. لكن النتيجة أنها قدّمت لاسرائيل واميركا خدمات لم تحلما بها، وعلى هذا الأساس – أي على أنقاض الحواضر العربية – تريد أن “تطبّع” العلاقة معهما.
كان ثمن التعرّف الى حقيقة عقلية النظام الايراني، ولا يزال، غالياً جداً عربياً. والأكثر فداحة ثمن الخداع وانكشافه حين يتعسكر مواطن ليتجبّر على مواطِنيه ويصنّفهم بين خونة وعملاء ليستحلّ دمهم. هذا كله سيبقى في النفوس وسيتحكّم بالمستقبل ولن يكون السلاح دائما العامل الحاسم، فكل الحروب الأهلية تتشابه: نادراً ما يكون هناك منتصر… وبالعودة الى الاتفاق النووي يُراد القول بأنه لم يكلّف ايران شيئاً، أي أنها ظفرت بإنجازها العلمي وباعتراف بأنها أصبحت “دولة طبيعية”، وايران تترجم ذلك بأنه يمكّنها من مواصلة سياساتها التخريبية كالمعتاد. أي أنها انتزعت الاتفاق على جثث السوريين والعراقيين واليمنيين واللبنانيين والفلسطينيين الغزيّين، وعلى هذا الأساس تستعد لمواصلة “الانتصارات”.
خرج الايرانيون الى الشارع للاحتفال بالاتفاق وبنهاية مفترضة للكذبة الكبيرة، لا للاحتفال برواية النظام الايراني عن “الانتصار”. فمَن احتفل بتلك الرواية هم ضحاياها، تحديداً، ممن ربطوا مصيرهم بالأساطير التي أسكنهم النظام الايراني فيها حين أوهمهم أنهم يستطيعون أن يكونوا الى ما لا نهاية فوق الدولة والقوانين والأعراف وموجبات التعايش مع الآخرين، كما هم الآن في بلدانهم. هؤلاء يتمنون أن تبقى الهيمنة الايرانية ليبقوا هم أيضاً، فـ”الانتصار” الذي أرجأ السلاح النووي أرجأ أيضاً تكريس تلك الهيمنة. لذلك ستعمد ايران الى التصعيد في كل مكان لنيل الاعتراف بها.