تحتاج بعض الحالات المستعصية إلى عمليّة جراحيّة، إلّا أنّ الحكومة، كأيّ مستشفى حكوميّ، لا تملك شيئاً، وتحتاج لكلّ شيء، من الشاش، إلى الدواء الأحمر، وصولاً إلى غرفة العمليات مع كامل تجهيزاتها.
إنّها حكومة الحاجة والضرورة، قوّتُها في ضعفها، واستمرارها معقودٌ على مدى الحاجة إليها. وزنُها معروف، وطاقتُها الإنتاجيّة أيضاً، أبصرَت النور بفضل العناية الخارجيّةِ، و«القابلةُ» الدوليّة التي ساعدَت على «ولادتها»، تملك «الريموت كونترول»، وتُسيّرُها وفقَ ما تريد، فلا هي قادرة على اجتراح المعجزات، وممنوعٌ عليها الاستقالة. دورُها تصريف الأعمال، والمساعدة على تمرير المرحلة بأقلّ الأضرار الممكِنة.
الاستحقاق الرئاسي، أبعدُ منها وأكبرُ من قدرتها، قانونُ الإنتخاب أيضاً، الموازنة العامّة أيضاً وأيضاً… وحتى لا تبقى عاطلةً عن العمل مسموح لها أن تتناولَ الأمنَ الغذائي، والأمنَ الإداري، والسياسي، ومَطمَر الناعمة، وسوكلين، وفرزَ النفايات، وأزمَة الكهرباء، والطاقة، ومصروفِي الكازينو… ونهرُ الفساد هادرٌ وقد يحمل في كلّ يومٍ أمرَ مهمّة.
غابَ الزوّار الإستثنائيّون عن بيروت منذ مدّة طويلة، ليس من عمل، ولا من وظيفة يمكن أن تضطلع بها العاصمة اللبنانية على الصعيدَين الإقليمي والدولي. القيمة المضافة التي كانت تحتفظ بها قد تبدَّدت، والبَلد ممدَّد في غرفة العناية الفائقة تحت مراقبة المجموعة الدوليّة، يأتي موظّف على مستوى سفير، «فينخَضّ» البلد من أقصاه حتى أقصاه، وتُفتَح أمامه كلّ الأبواب والمساريب، وتُسارع غالبية الفاعليات إلى ضبط ساعتها وفقَ توقيت مواعيده، لمعرفة ما عنده، وما إذا كان يحمل جديداً يُنبئ بمتغيّرات في المشهد الداخلي.
في البَلد حوار، وما كان ليبدأ لولا إملاءات خارجيّة، والبعض يقول «أوامر غير قابلة للنقض؟!»، علماً بأنّ المنخرطين في صَولاته وجولاته غيرُ مقتنعين بجدواه، ولسان حالِهم: «لا يكفي إزالة مظاهر الاستفزاز من الشوارع، بل من النفوس والقلوب، والعقول أوّلاً، وعبَثاً يبني البنّاؤون إذا كانت المنطلقات خاطئة، والأساسات معوَجّة».
في البلد خطَط أمنيّة، وهَبّة باردة وأخرى ساخنة، لكنّ الإنجازات التي تتحقّق غالباً ما تأتي نتيجة دعمٍ مخابراتي، من جهات تعرف تماماً تقلّبات الريح في المنطقة.
يدهمُ الوضعَ الداخلي مناخ سعوديّ – إيرانيّ متقلّب. غيابُ الملك عبدالله بن عبد العزيز، وتسَلّم الملك سلمان مقاليد المملكة، وإحداثُه بسرعة قياسيّة تعيينات ومناقلات نوعيّة، دفعَت بالإيرانيين إلى الاستنفار على كلّ الجبهات لترَقّب المتغيّرات الأمنية والسياسيّة والاقتصاديّة، خصوصاً أنّ المعلومات تشير إلى أنّ القمّة الأميركيّة – السعوديّة كانت صعبةً من حيث المفاتحة والمصارَحة ووضع النقاط على الحروف، والانطباع الذي خرجَ به الرئيس الأميركي «أنّ زمنَ الدَلع قد ولّى»، وهناك التزاماتٌ إمّا أن تبصر النور وبشفافيّة، أو أنّ كلاماً آخر سيُقال عن مستقبل العلاقات.
يرى الإيراني أنّ الأمير سعود الفيصل لا يزال على رأس الهرَميّة الديبلوماسيّة السعوديّة، وأنّ السياسة الخارجيّة لن يصيبَها أيّ تغيير، أقَلّه في المدى المنظور، وهو مقاوم شرِس للتمدّد الإيراني في العراق، وسوريا، ولبنان، واليمن، وسائر الدوَل العربيّة، وله مواقف مشهودة على هذا الصعيد، وقد سَجّل نقاطاً عدّة في مرمى البرنامج النووي، خصوصاً في المفاوضات ما بين إيران ومجموعة (5+1)، بالتالي فإنّ المعادلة التي فرضَها لا تزال ساريّة المفعول وبقوّة بعد قمّة الرياض الأخيرة: «لا إتّفاق، إلّا مقابل ضمانات وفق المعايير السعوديّة».
يعودُ الإيراني ليتخندقَ بقوّة داخل الساحة اللبنانية. يراقب مسارَ التطوّرات، ويُحصي أنفاسَ تيار «المستقبل»، ويتابع مواقفَه ونشاطاته بيقظةٍ تامّة، لإفشال أيّ تحرّك قد لا يتوافق مع دورِه. والتراكمات بين الطرَفين، تتجاوز قدرةَ الحوار البارد، وقدرةَ المتحاورين، إنّها تراكمات أبعدُ من الخط الأزرق، ومِن مزارع شبعا، وقواعد الإشتباك. إنّها تتناول البَلد، والنظام، والصيغة، والشراكة، وقواعدَ العيش المشترك.
إنّ العراضة المسَلّحة وإطلاقَ النار الكثيف أثناء الإطلالة المتلفَزة للأمين العام لـ»حزب الله» السيّد حسن نصرالله، وقبلها وبعدها، كان مجرّد «بروفا» لحالةٍ إنقلابيّة، وتذكيراً بأحداث 7 أيار، وبالقمصان السود، وإنذاراً مسبَقاً من أيّ تقارُب أميركيّ – سعودي قد يحصل على حساب المصالح الإيرانية في المنطقة.
قد يستمرّ الحوار، لكن مع شَدّ الأحزمة، فلا رجاءَ له، ولا أملَ مِنه راهناً، سوى التذكير بأنّه مطلوب للإبقاء على شيء في البلاد يُملي الفراغ، ويمكن الحديث عنه، إلى أن تأمرَ اللجنة الطبّية الدوليّة بإنعاش البَلد، وإخراجه من غرفة العناية الفائقة.