لطالما كان لبنان هدفاً لغزوات القوى الإقليمية الطامعة بثرواته وغناه المُتنوّع، حيث وضعت نصب استراتيجيّاتها الوصول اليه والحصول على مُقدّراته، مع حرص معظمها قدر المستطاع على الإبقاء عليه نعمةً مُستدامة، وركيزةً ومتنفّساً في زمن الأزمات السياسية الدولية والانسدادات الديبلوماسية والحصارات المالية والاقتصادية.
تعاطى قادة القوى الاقليمية بشكل استراتيجي مع هذه “الرزقة” كمصدرٍ وفير للكثير من المُقدّرات التي افتقدوها في بلدانهم وشعوبهم وانظمتهم وإداراتهم، وأكثر من أدرك هذا الواقع كان حافظ الاسد، الذي إستفاد من مُميّزات لبنان الى الحدّ الأقصى، مُستخدماً إياه كصندوق بريد، ومتواصِلاً بصراخ ومعاناة شعبه مع المجتمع الدولي، ومُحقِّقاً لنظامه التسويات والصفقات التي صبَّتْ لأجل توسيع نفوذه في المنطقة، فإستطاع بحنكته تجنّب الغرق بوحوله، مُبقياً عليه “النعمة”، ومانعاً كافّة القوى المُتدخِّلة من إستهلاكه ليُصبح “النقمة”. ولضمان ذلك إلتجأ لأساليبه القمعية والإجرامية والاغتيالية، فعزل القوى الداخلية التي قاومته، وأمّن على الوديعة التي فجَّرت المنطقة المُحرَّرة التي طالما سبّبت المشاكل والعوائق لمُخطّطاته، فأودعها في الإقامة الفرنسية كقرشٍ أبيض لاستعمالها لاحقاً في يومه الأسود. وهذا ما حدث فعلياً، فعندما ضربت ثورة الأرز اللبنانية نفوذ نظامه ووجود أجهزة أمنه على الأراضي اللبنانية، استعان نظامه عندها بالتسوية التسونامية التي حققت له ولحلفائه التوازن مع الحالة السيادية الجامعة.
بإنتهاء مرحلة النظام السوري في لبنان، خرج اللبنانيون من تحت حكم الإركاع والتخضيع والقتل والتعذيب والهجرة والاعتقال، وشكّل صمود مجموعات الأحرار السياديين على مدى اكثر من عشر سنوات من الاحتلال، الشرارة التي فجّرت انتفاضة الشعب اللبناني بوجه طغيان النظام السوري، مُستغلّةً الوقت لأنها تشعر بوجدانها بأنّ لحظة سقوط نظام الرجل الاستراتيجي ستأتي حتماً، بسبب إفتقاده لما وصفه المُفكّر الاغريقي ديونيس في ملاحظته “إن كل واحد من الاستراتيجيين العشرة الذين كانت تُنتجهم أثينا كان شرط إنتخابه “أن تكون عيناه نظيفتين” وهذا يعني أن يرى صحيحاً وبعيداً”. هذه الصفة من النظافة لم تدخل الى استراتيجيته، فتفوّق عليه الأحرار والسياديون اللبنانيون في آخر المطاف.
ولكن المؤامرات والأطماع بلبنان لم تنتهِ، فاستلم الراية المُخطَّط الجاهز لـ”الحرس الثوري الإيراني” يساعده اللبناني “حزب الله”، الذي اختار ان ينقضّ على الفريسة بدل إبقائها حيّة، فشراهيّته وفائض قوّته تغلّبا على حكمته، وبغبائه حوّل النعمة نقمة على المِحور، والدجاجة الذهبية أضحت عاجزة.
خسِرَ مِحور المُمانعة ورقةً مهمّة، فأصبح لبنان الداعم له “تقّالة” تُشارك بسقوطه كاملاً، أمّا عملية إنقاذه فليست من شيمه، وهنا يأتي دور الأحرار اللبنانيين لنجدة وطنهم كما العادة، فمن حقّق صفة النعمة للبنان يبقى دائماً جاهزاً لإعانته، أمّا من حوّله نقمة، فإلى الزوال ذاهب مع كل أعوانه اللبنانيين. المعركة الآن هي بين الساعين الى تحرير لبنان، بالحفاظ على ما تبقّى من احتياطاته كي تكون العودة اسهل واسرع، وبين الطامعين بما لم ينجحوا في نشله وسلبه حتى الآن، فإن هؤلاء الشرّيرين المُصرّين على إبقاء الدعم المُتفلّت ينطبق عليهم قول للقدّيس اسحق السرياني “اعظم خطيئة عدم الحسّ، عندها يتحوّل الانسان الى شرّير كامل”.