النظام الايراني يعرف بدقة حدود قوة ايران وقدراتها على المواجهة وأين وكيف، بعيداً عن الخطابات “العنترية” التي يُتقنها المعمّمون وقيادات “الحرس الثوري”، كما يملك الإحداثيات الدقيقة للسقف الذي يتحرك تحته ويعمل دائماً على مراعاة هذه الإحداثيات، بحيث لا تُنتج حركته اصطداماً يؤلم “راْسه” قبل أذرعه. ربما تعلّم ذلك من لعبة الشطرنج التي يقال ان أحد الفُرس وضع قواعدها حتى يحصل على كامل مخزون بلاد فارس من القمح…
أمام ارتفاع جدران الحصار الخارجي الذي تعرف القيادة الايرانية شدة عَلقمه، يبدو انها تبحث عن طرق وحلول جانبية للتخلص من وقع الحصار بأقل أضرار ممكنة. وما ذلك سوى لانه سيأتي هذه المرة بعد ارتفاع منسوب التفاؤل بالانفتاح وتدفق العقود والاموال من جهة، وتبددها تدريجياً بسبب خوف الشركات وعدم قدرة الدول الأوروبية على الدخول في خصام مع الادارة الترامبية التي لا تتورّع عن اتخاذ اخطر القرارات المعادية، حتى ولو اقتضى الامر تعرض الولايات المتحدة للإضرار كما يحدث بينها وبين كندا… ربما اكثر من ذلك ان انهيار الريال الايراني لم يعد محمولاً؛ فهو استبدل في الاسواق بحوالي ٩٢٠٠ ريال للدولار رغم فرض الحكومة سعراً رسمياً هو ٤٢٠٠ ريال للدولار، اي الضعف، وهو مرشح للانهيار أكثر فأكثر، علماً انه صدر تعميم قضائي بأن الحكم على المتلاعبين بالاقتصاد وسوق العملة يتراوح بين الإعدام و٢٠ سنة سجن.
ما يشجع ايران أكثر فأكثر على تسريع فتح خطوط للتفاوض مع من تستطيع، ان موعد قمة دونالد ترامب وفلاديمير بوتين يقترب بسرعة (فور انتهاء المونديال). تخشى طهران ان تضعها القمة امام امر واقع خصوصاً في سوريا بعد ان أعلن ان الرئيسين سيبحثان بالتفاصيل بالملف السوري. لذلك :
- توجّه الرئيس حسن روحاني أمس الاثنين الى سويسرا والنمسا التي ترأس حالياً الاتحاد الاوروبي، رغم الحرب المفتوحة عليه في الداخل الى درجة مطالبته بالاستقالة من معارضيه وحتى من قلب معسكره… وهو يغادر الى سويسرا اولاً، وضع مباحثاته في إطار الاتفاق النووي والعمل لانقاذه، فأكد ان الأوروبيين سيقدمون عبر رئيسة فيينا “حزمة مقترحاتهم” التي تسمح عملياً ببقاء الاتفاق وتنتج للاوروبيين حلاً يؤهلهم لمواجهة تشدد ترامب… والاهم أن الايرانيين شددوا دائماً على عدم المزج في المفاوضات بين النووي والقضايا السياسية والإقليمية. إلا أن روحاني قال إن “هناك قضايا اقليمية وعالمية كنّا ونستمر في التفاوض حولها، لذلك ستتضمن المحادثات قضيّتَي سوريا واليمن”.
- وزير الخارجية جواد ظريف توجّه الى عُمان ومنها الى صلالة ليلتقي يوسف بن علوي المسؤول عن الشؤون الخارجية. ليس في الامر غرابة، فالعلاقات بين البلدين متينة جداً الى درجة ان السلطنة كانت وما زالت تشكل “الصندوق الاسود” للكثير من اسرار ايران في المنطقة. وللتذكير فإن بداية المفاوضات الاميركية – الايرانية السرية قبل ان تتحول الى علنية بدأت في عُمان التي عرفت كيف تحافظ على اسرارها رغم توقيع الاتفاق النووي .
حتى الآن لم يتسرّب شيء عن الأسباب والأهداف الحقيقية لهذه الزيارة. لكن يقال جدياً ان مفاوضات مع واشنطن جديدة برعاية وتكتم السلطنة يتم فتح “أقفالها”، بحيث يعرف الطرفان مدى إمكانية عقد اتفاقات جديدة توقف التدهور الحاصل حتى الآن. ما يشجع على قبول هذه الإمكانية ان المفاوضات العلنية التي قادها جون كيري وزير الخارجية الأميركي ونظيره جواد ظريف وتم التوصل فيها الى اتفاق يرفضه ترامب حالياً، كان قد بدأها سراً وفي عُمان تحديداً وزير الخارجية السابق علي اكبر صالحي الذي كان قد درس في معهد ماسوتشوسش وبعد تدخل مدير شركة الناقلات الايرانية الوطنية…
الوزير ظريف وهو الأقرب الى روحاني لم يُخفِ انه جاء لبحث “أوجه التعاون وتطويرها (علماً ان متانة العلاقات بين طهران وعُمان لا تتطلب هذا الانتقال وفي هذا الظرف حيث الرئيس على سفر) وتبادل وجهات النظر حول عدد من القضايا”. لا شك ان اختيار ظريف لهذه المهمة الدقيقة ليس فقط لخبرته ولمهارته في المفاوضات السابقة، وإنما ايضاً لانه يدرك عن كثب ان “فشل الاتفاق النووي سيكون خطيراً جداً”…
المفاوضات الإيرانية ـ الأميركية هذه المرة، ستكون أصعب من المفاوضات النووية السابقة. ترامب يريد ليّ الذراع الإيرانية أكثر بكثير من التوصل إلى اتفاق… نجاح المفاوضات يتوقّف على خفض إيران سقف مطالبها، خصوصاً الإقليمية منها، وخفض ترامب شروطه التعجيزية.