لم يكن يدري يحيى السنوار ومحور المُمانعة من خلفه أنه بإطلاقه عملية طوفان الأقصى قد أشعل شرارة حرب دوليَّة – إقليميَّة على امتداد الهلال الجغرافي من فلسطين المحتلة إلى إيران مرورا بكل من لبنان وسوريا والعراق واليمن، تلك الدول التي أقحمتها إيران في محور المُمانعة رغماً عن غالبيَّة شعوبها، مستميلة بعض من مكوناتها المذهبيَّة، ومنشئة فيها مُنظمات حزبيَّة مُسلَّحة، عملت على تمويلها وتدريبها ومدِّها بالأسلحة وتوفير الدَّعم والغطاء السياسي لها.
مع بدايةِ عمليَّة طوفان الأقصى توجه محمد الضيف بخطاب أقرب إلى البيان رقم (1) معلنا فيه بدئ عمليَّة تحرير القدس، داعيًّا الدول العربيَّة التقدمية ومختلف القوى التحرريَّة فيها وجميع القادرين على حمل السلاح للانخراط معركة فاصلة، وبدا وكأنه يوجه إشارة لكل جبهات محور الممانعة لفتح جبهاتهم والانخراط في الحرب المفتوحة المقرَّرة، ولم يكن يدور في خلده أن المنظمة التي ينتمي إليها ويقود جناحها العسكري ستضطر لخوض الحرب في وجه الكيان الإسرائيلي منفردة، واكتفاء باقي الجبهات بمشاغلات متواضعة حفاظاً ماء الوجه كما يقال بالعاميَّة، بعد فهمهم للتحذيرات الغربيَّة التي حملت على ظهر الأساطيل وحاملات الطائرات والغواصات وطائرات التجسس.
لقد كان غرض إيران من إنشاء ميليشاتٍ تعمل وفق توجيهاتها ولصالحها تعزيز قدراتها على المناورة سياسيًّا وعسكريًّا لنشر نفوذها على امتداد منطقة الشرق الأوسط، ولمناوئة من تعتبرهم أعدائها أو خصومها. ولهذا الغرض استغلَّت إيران تلك الميليشيات التي أنشأتها أو تمكّنت من استمالتها لمناوئة الأنظمة والدول التي لا تتوافق مع سياساتها التَّوسعيَّة والقائمة على مبدأ تصدير الثورة والمبنية على إيديولوجيَّة وحدة المرجعيَّتين الدينيَّة والوضعيَّة بالولي الفقيه، الأمر الذي ولَّد لدى المكونات الشعبيَّة في معظم الدول العربيَّة شرق البحر المتوسط ثنائيَّة الإنتماء، لا بل غلَّب انتمائهم للولي الفقيه على انتمائهم الوطني، الأمر الذي رأى فيه بعض الحكام العرب مساساً بشؤون دولهم الدَّاخليَّة ومُحاولاتٍ لزَعزعة استقرارها والإطاحة بحُكامِها، وهذا ما تسبّب بحرب ضروس ما بين إيران وصدَّام حسين دامت قرابة ثماني سنوات.
كانت البدايةُ التنفيذية لهذا التوجه الإيراني مع إنشاء حزب لله، الذي كانت بدايةُ نشأته من رحم حركة أمل التي أسّسها الإمام موسى الصدر، بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 استغلت إيران من سحب المنظمات الفلسطينيَّة من لبنان بعد الحصار الذي أقامه جيش الاحتلال على بيروت، وانهيار الأحزاب اللبنانية التَّقدمية وتعزيز قدرات الجيش اللبناني العسكريّة، ونشر قوة من المارينز الأميركيَّة في بيروت، والتي نجح مقاتلي حزب لله بتوجيه ضربة قاسية لهم بتفجير مقرهم بالتوازي مع تفجير مبنى السفارة الأميركيَّة في بيروت. وتكررت هذه التَّجربة في العراق بعد الاجتياح الأميركي والقضاء على النظام البعثي فيه وإنشاء عدد من المنظمات المذهبيَّة وفي طليعتها الحشد الشعبي، وبعد ذلك في سوريا في معرض انتفاضة الشعب السوري على نظام آل الأسد حيث أوعزت إيران لحزب لله وبعض المنظمات العراقية للإنخراط مباشرة في القتال إلى جانب النظام، ورغم ذلك بقي وجوده مُهدداً إلى أن تدخّلت روسيا عسكريًّا ونشرت لها قوات في مناطق نفوذ النظام وبخاصة تلك التي استعادتها من الثوار. كذلك اعتمدت إيران ذات المنحى في إقصاء علي عبد لله صالح عن الحكم في اليمن وتمّت تصفيته، ما سهَّل على الحوثيين إحكام سيطرتهم على ما يعرف باليمن الشمالي، مُتخذين من العاصمة صنعاء مركزاً لسُلطتهم.
اتِّساع الرقعة الجغرافية التي سيطرت عليها التنظيمات التَّابعة لإيران، والتي أطلق عليها في ما بعد «الأزرع الإيرانية»، دفع بالقادة الإيرانيين للغلو في مواقفهم التَّصعيدية والمجاهرة بإحكام سيطرة إيران على أربع دول عربيَّة، ورفعوا من وتيرة مناوءاتهم لدول الجوار ومُحاولات زعزعة الإستقرار في منطقة الشرق الأوسط من خلال التَّحرشات العسكرية، وإثارة القلاقل السياسية في منطقة الخليج العربي وداخل كيان العدو الإسرائيلي الذي أضحى بمُقدور إيران مناوءته من الداخل عبر استمالتها لمِنظمتي حماس والجهاد الإسلامي وتزويدهما بالسِّلاح والأموال، واستمر الوضع على هذه الحالة قرابة عقدين من الزمن إلى أن حدثت عملية طوفات الأقصى والتي ستكون بمثابة الشعرة التي ستقسم ظهر البعير بحيث أن مرحلة ما بعدها ستكون نقيضاً لما كانت عليه أحوال منطقة الشرق الأوسط ما قبلها.
إن المنطقة هي فعلاً على مشارف تغييرات جزريَّة، من السهل على أي محلل جيوسياسي أو مراقب مخضرم أن يستشرف حجم التغيّرات الجيوسياسيَّة المرتقبة، والتي سيُحدَّدُ إطارها على ضوء الحرب القائمة، والمعارك المتلاحقة التي ستشنّ في معظم دول محور الممانعة، والتي تخوضها إسرائيل مدعومة من الدُّول الغربيَّة الدائرة في الفلك الأميركي بعد أن نجح رئيس وزراء العدو الإسرائيلي في إقناع حكام الغرب أنه يخوض حرباً استباقيَّةً وجوديَّة عن الغرب ولصالحه وسعياً لإرساء الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، في الوقت الذي أعربت إيران فجأةً تخلّيها عن تهديداتها السابقة في القضاء على إسرائيل واستعدادها للانخراط في عمليَّةٍ سلميَّة لحل النزاع، معلنةً عن عدم رغبتها في الانخراط بالحرب إلى جانب حزب لله، بعد أن كانت قد تخلَّت عن شعار وحدة الساحات خلال معركة غزة.
مقابل الانتكاسة الإيرانية المتمثلة في التحول المفاجئ في التوجهات الإيرانيَّة، والانتكاسات الإستخباراتية التقنية والميدانية التي مُني بها حزب لله باستهداف عناصره وقياداته ومخازنه ومنصات إطلاق الصواريخ، يبدو أن إسرائيل قد استعدَّت لهذه الحرب منذ انتهاء حرب 2006 في الجنوب اللبناني والتي مُنيت بها بخسائر عسكرية وبشرية وماديَّة ومعنوية اضطرتها لوقف الحرب مكتفية بتوجيه ضربات جوية للأحياء السكنية في قرى الجنوب وضاحية بيروت الجنوبية.
إسرائيل التي استغلّت عملية طوفان الأقصى واتخذت منها شرارة لإشعال حرب واسعة، تسعى إليها منذ عقود، باعتبارها أمّ حروبها وتتعامل معها وكأنها آخر معاركها، لذا تراها تضع نصب عينيها القضاء على القدرات العسكريَّة لمِحور الممانعة بكل مكوناته على مراحل متتالية، بدءاً بمنظمتي حماس والجهاد في غزَّة انتهاءً بإيران، مروراً بالتنظيمات التي أنشأتها أو تعمل لصالِحها، مُستفيدة من الدَّعم الأميركي والغربي اللامحدود الذي تقدمه لها الدول الغربية والخدمات الإستخباراتيَّة والعسكرية التي توفرها لها الأساطيل التي وجهت إلى منطقة شرق المتوسط، ليتسنى لها بعد ذلك استغلال النصر على نحو يضمن لها فرض نفوذها من دون منازع.
إنها لحرب مفتوحة، تريدها إسرائيل لإحكام سيطرتها على منطقة الشرق الأوسط، ويريدها الغرب لتقزيم إيران وتقليم أظافرها، وتريدها أميركا لإراحة إسرائيل وعزل روسيا، ويريدها الزعماء العرب لضمان بقائهم في السلطة، ويبدو أن الكل قد استعدَّ لها وهيَّأ لها كل مُستلزماتها، بدءاً بإسرائيل وأميركا التي توفر لها الغطاء والتبريرات ودول أوروبا وإيران وتركيا، وحدها الشعوب العربية تقف مُتفرجة مثبطة خائرة القوى متوجسة من مآلاتِ الحرب وانعكاساتِها بعد أن تمزَّقت أوصال الأمَّة وقضي على جيوشها، وصفيَ معظم قادتِها، ودمّر ما كان لديها من مخزونات للأسلحة الاستراتيجيَّة، وهي مجرَّدة من كل مقومات الصُّمود بعد أن خارت قواها نتيجة الحروب الأهليَّةِ الداخليَّة والتي أدت إلى تقسيم مُعظَمِ الدُّولِ العربيَّةِ إرباً، وهيّئت الظروف لإعلان دويلات صَغيرة متناحرة.
وأختم بالتذكير بعنوان لمقال نشرته منذ أشهر «مستقبل العرب رهن فهمهم للتَّغيرات في الخريطة الجيوسياسية الإقليمية»، إلَّا أنه غاب عني أن العرب لا يقرأون، ولا يتحسّبون للمستقبل.