الرد الإيراني على إستهداف القنصلية في دمشق، لم يكن مفاجئاً بحد ذاته، لأنه كان متوقعاً، ولكن عنصر المفاجأة برز في حجم ونوعية السلاح المستخدم من جهة، وفي الحرص، من جهة ثانية، أن تنطلق المسيّرات والصواريخ من الأراضي الإيرانية بالذات، وليس من بلدان الحلفاء والأذرع العسكرية، وخاصة في لبنان، وثالثاً في حصر التصويب على الأهداف العسكرية، والإبتعاد عن المدن الكبيرة والأماكن السكنية.
الهجوم الجوي الإيراني غير المسبوق على الكيان الصهيوني، بقي في إطار التحذير السياسي والأمني من مضاعفات تكرار الإعتداءات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية، أكثر مما هو عملية للثأر لكبار القادة العسكريين في فيلق القدس والحرس الثوري، لأنه لم يستهدف مواقع موجعة للعدو الإسرائيلي. مما يعني بشكل آخر، أنه بقي ضمن «قواعد الإشتباك»، التي يمكن السيطرة عليها أميركياً، والتي تحول دون تطور المواجهة إلى حرب مفتوحة، لا تريدها طهران، وتضغط واشنطن، منذ إندلاع الحرب على غزة، لعدم حصولها، وتحاول لجم إندفاعة نتانياهو وفريقه المتطرف في فتح جبهة الشمال على الحدود اللبنانية.
ويبقى مصير المواجهة المحتدمة بين طهران وتل أبيب، رهناً بمدى تجاوب نتانياهو مع طلب الرئيس الأميركي جو بايدن، بعدم الرد على هجوم المسيّرات الإيراني، وتجنب أية خطوة عسكرية تصعيدية من الجانب الإسرائيلي، في إطار القرار الأميركي بمنع إنزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية، تضرُّ بالمصالح الاميركية في الشرق الأوسط، وتستفيد منها روسيا والصين.
وكشفت المسارعة الأميركية إلى نجدة الكيان الصهيوني، وتدخل سلاح الجو الأميركي، وبقية الحلفاء الغربيين، في إسقاط المسيَّرات الإيرانية، والتصدي للصواريخ قبل وصولها إلى أهدافها، أن الإستراتيجية الأميركية والغربية في حماية الكيان الصهيوني لم تتغيّر، وأن الخلافات التكتيكية في وجهات النظر حول تطورات الحرب في غزة، تبقى ثانوية، عندما تتعرض الدولة العبرية لأي خطر خارجي.
كما فضح الهجوم الإيراني بشكل واضح، أن الدولة العبرية غير قادرة لوحدها على الدفاع عن نفسها، والصمود في أية حرب جدّية تقترب فيها القدرات العسكرية من التوازن، كما هو حاصل حالياً بين تل أبيب وطهران. وأن أسطورة الجيش الذي لا يُقهر سقطت إلى الأبد، بعد إنهيارها في الحرب الدائرة في غزة منذ أكثر من نصف سنة، دون أن تحقق أهدافها في تحرير الرهائن، أو الوصول إلى قادة حماس، فضلاً عن الخسائر الفادحة في الأرواح والمعدات في صفوف جيش العدوان.
ثمة تكهنات بأن الرد الإيراني جاء تحت سقف قواعد الإشتباك، نتيجة مشاورات ومحادثات جرت بين طهران وأكثر من عاصمة عربية وأجنبية، بما فيها قنوات الإتصال الأميركية، الناشطة بين واشنطن وطهران منذ عشية الحرب على غزة، وأن الإتصالات توصلت إلى تفاهمات على «محدودية الرد»، وبقائه ضمن الأهداف العسكرية، وتجنب الدخول في حرب مفتوحة، كما يسعى لها نتانياهو، للهروب إلى الأمام من حربه الفاشلة في غزة، والتهرُّب من تصاعد المعارضة ضده، وتطويق تداعيات الإنقسامات الداخلية المتزايدة.
ولكن البعض يرى أن رئيس الحكومة الإسرائيلية سيستغل محدودية أضرار الضربة الإيرانية، لتحسين صورته في الداخل، وإرتداء قبعة الأبطال القادرين على الدفاع عن جمهورهم، والنيل من خصومهم، دون أن يتكبدوا الكثير من الخسائر. وبالتالي سيُحوّل نتانياهو مفاعيل التدخل الجوّي الأميركي والبريطاني والفرنسي، إلى إنتصار وهمي يغطي فيه الفشل الذريع لحربه البرية على غزة، رغم كل ما أحدثه فيها من خراب ودمار، وحصار نشر المجاعة في صفوف أهالي القطاع .
كما ستحاول تل أبيب إستعادة بعض العطف والتأييد الخارجي، الذي فقدته بسبب حرب الإبادة الجماعية في غزة، وتظهير صورة الدولة المعتدى عليها من جديد، بعدما تبين للعالم أجمع، أنها الدولة الأكثر عدوانية لكل المفاهيم الإنسانية في قانون الحرب الدولي. وهنا لا بدَّ من رصد قرارات إجتماع مجموعة السبع G7»»، الذي دعا له الرئيس الأميركي بايدن، إثر الهجوم الإيراني، خاصة وأن بعض الدول السبع كان قد أوقف شحن الأسلحة الى تل أبيب، بعد المجازر الوحشية في غزة.
وثمة تساؤلات يتم تداولها على أكثر من صعيد، منها على سبيل المثال لا الحصر: أين ستوظف إيران تفاهمات «الرد الممكن والمحدود» في ملفات المنطقة المُربكة؟
في التشديد على وقف إطلاق النار في غزة؟ أو في الحفاظ على حماس في غزة بعد «اليوم التالي» للحرب؟ في تعزيز مكاسب حزب الله في التسوية السياسية المرتقبة في لبنان؟ أو في إعادة تفعيل دور فصائل الحشد الشعبي في العراق؟ أم في تثبيت سيطرة الحوثيين في اليمن، والحصول على الإعتراف الأميركي والغربي بحكومة الحوثي في صنعاء؟.
وقبل كل ذلك طبعاً، المشاركة في أي مؤتمر لترتيب أوضاع المنطقة بعد حرب غزة، وتوفير الضمانات الدولية لإستمرار المشروع النووي، والعمل على رفع العقوبات المالية والإقتصادية عن إيران.
لعله من المبكر الخوض في إحتمالات أجوبة التساؤلات المطروحة، ولكن الأيام المقبلة كفيلة بإظهار الخيط الأبيض من الخيط الأسود.