في 13 نيسان الماضي، لأول مرة في تاريخ الجمهورية الاسلامية، قررت طهران، وعلى غير عادتها، الخروج على قاعدة حروب الظل التي تخوضها مع اسرائيل، لاعتماد مقاربة المواجهة المباشرة من خلال توجيه ضربة جوية مباشرة ضد اسرائيل، بواسطة مئات من الصواريخ الباليستية والمجنحة والمسيرات، ولم تكن هذه الهجمة رمزية كما وصفها بعض المراقبين، وذلك انطلاقاً من عدد ونوعية الاسلحة التي استعملتها ايران، بل سعت ايران هذه المرة الى توجيه رسالة واضحة الى انها قادرة على الوصول الى عمق الاراضي الاسرائيلية، واصابة اهداف عسكرية حيوية، وبأنها لا تخشى حصول مواجهة مباشرة مع اسرائيل.
في رأينا لم تكن وسائل الدفاع الجوي في اسرائيل كافية او قادرة وحدها لمواجهة هذا الهجوم الايراني بكثافته وتعدد وسائله المتطورة، وبأنها تعرضت فعلياً لمخاطر، لم يسبق ان تعرضت لمثلها في كل الحروب السابقة التي خاضتها مع الدول العربية او مع اذرعة ايران العسكرية بما فيها حزب الله.
انتهت الهجمة الايرانية بأقل الخسائر الممكنة داخل اسرائيل بعد ان تصدّت لها وسائل الدفاع الاميركية والبريطانية والفرنسية، بالاضافة الى مشاركة بعض الدول العربية في هذه العملية، والتي نتج عنها اسقاط معظم الصواريخ والمسيّرات قبل بلوغها الاراضي الاسرائيلية، باستثناء عدد محدود جداً من الصواريخ الباليستية والتي كانت اضرارها محدودة، بعد ان اصابت احدى القواعد الجوية في صحراء النقب.
صحيح ان الهجوم الجوي الايراني المباشر كان الاول من نوعه، ولكنه كان من المفاجئ ايضاً حشد كل هذه الوسائل الاميركية والاوروبية والعربية واستعمالها بفعالية من اجل تأمين وحماية اسرائيل من هذه الهجمة الخطرة، حفاظاً على مستقبل هذا التحالف، الذي فاجأ الجميع. نصحت الولايات المتحدة لا بل ضغطت على القيادات الاسرائيلية، من اجل ان يكون الرد الاسرائيلي على ايران رمزياً ومحدوداً، منعاً للتصعيد والذهاب الى حرب واسعة، وحفاظا على روح وارادة التعاون التي ابدتها بعض الانظمة العربية مع الولايات المتحدة للمشاركة في حماية اسرائيل من النتائج المدمرة التي كانت يمكن ان تتسبب بها الصواريخ والمسيرات الايرانية، لو انها وصلت الى اهدافها داخل اسرائيل.
انه لمن البديهي ان تدرك اسرائيل اهمية الانضمام الى تحالف دولي واقليمي من اجل تحقيق امنها في اية مواجهة مستقبلية مباشرة مع ايران وحلفائها في المنطقة. ولكن يبدو بأن تحقيق هذا الهدف قد يتطلب من قوى اليمين الاسرائيلية المشاركة في الحكومة، ان تعيد النظر في رؤيتها لمدى قدرة وحرية اسرائيل في متابعة اولاً الحرب الجارية في غزة الى حين تحقيق الاهداف التي اعلنتها بعد عملية 7 تشرين اول الماضي على غلاف غزة. وتأتي في طليعة هذا الامر، وقف عملية الهجوم على رفح، والتي يمكن ان تتسبب بمأساة كبرى لاكثر من مليون فلسطيني، الامر الذي حذّر منه الرئيس بايدن، تكراراً من خلال اتصالات هاتفية مع رئيس الحكومة نتنياهو.
لا بد ان يدرك قادة اسرائيل بأن حجم التهديدات والمخاطر التي تواجهها بلادهم الآن عبر القدرات العسكرية الايرانية المتطورة، وعبر قدرة حلفاء ايران في الاقلي على فتح جبهات مواجهة معها تمتد من حدود لبنان الى سوريا والعراق واليمن، بات يفوق كل ما واجهته اسرائيل في السابق، وبأن المبدأ الذي كان اليمين الاسرائيلي يعتمده بأن «اسرائيل هي حرّة في قراراتها «السيادية» وبأنها «قادرة على حماية نفسها بوسائلها الخاصة والذاتية، وبأنها ليست بحاجة لنصيحة احد ما حتى ولو صدرت عن حليفتها الولايات المتحدة».
بات لزاماً على اسرائيل ان تدرك بأن الهجوم الايراني الاخير قد فتح امامها فرصة ذهبية للتعاون مع جيرانها العرب في اقامة تحالف او تفاهمات تحقق الامن الاقليمي، وتحمي الجميع من تنامي الخطر الايراني المباشر او بواسطة حلفائها المنتشرين في اربع دول عربية. وأن النجاح في تطوير نشوء مثل هذا التحالف قد يتطلب تعاوناً اسرائيلياً بسرعة وصدق مع الرئيس بايدن لتحقيق هدفين اساسيين:
الاول، وهو الامر الاكثر الحاحاً القبول بوقف عملية رفح من جهة، واعلان وقف كامل لاطلاق النار في غزة، مع الانفتاح على المطالب الاميركية بضرورة احياء عملية السلام مع الفلسطينيين من اجل تحقيق حل الدولتين.
الثاني، الانفتاح الكلي على المبادرة الاميركية، لاستكمال رعايتها لمحادثات تطبيع العلاقات بين اسرائيل والمملكة العربية السعودية، والتي ستفتح دون شك الباب على مصراعيه امام انفتاح جميع الانظمة العربية والاسلامية على اسرائيل.
يجب ان تدرك القيادات الاسرائيلية بأن الطريق نحو تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي لاسرائيل والذي لم يعد يقتصر فقط على تفكيك بنية حماس العسكرية واسقاط حكمها لقطاع غزة، بل يبدأ بخطوة اعلان وقف لاطلاق النار في غزة، وبالتالي نزع ذرائع ايران وحلفائها لاستمرار هجماتهم ضد اسرائيل. وان مثل هذا الاعلان سيكون بمثابة ردّ جميل للرئيس بايدن على دعمه غير المحدود الاسرائيلي سياسياً وعسكرياً، وسيصب في صالح بايدن، وخصوصاً لجهة تشجيع جميع الناخبين المسلمين والعرب لانتخابه في الانتخابات الرئاسية المقبلة. كما انه سيشجع الشباب الاميركي الذي عبّر عن نصرته لغزة، وعن دعوته معظم الجامعات الاميركية لوقف استثماراتها ومساعداتها لاسرائيل، وذلك على خلفية حرب «الابادة» التي تخوضها ضد الشعب الفلسطيني.
يبدو بأن حرص نتنياهو على الحفاظ على التحالف القائم في حكومته، وبالتالي منع تفسخها كان من الاسباب المباشرة لاظهار العناد والرفض لمطالب الرئيس الاميركي، وخصوصاً ما يتعلق منها بتسهيل دخول المساعدات الانسانية الى غزة، ومراعاة قوانين الحرب من اجل تخفيف الخسائر في صفوف المدنيين الفلسطينيين. ويبدو ايضاً بأن العقدة التي يواجهها بايدن في علاقاته الآن مع نتنياهو باتت تتركز على الحؤول دون تنفيذ عملية عسكرية واسعة في رفح، في ظل المخاطر الكبرى التي سيواجهها اكثر من مليون مواطن لجأوا الى هذه المدينة. يمكن وضع الهجوم الاسرائيلي الذي بدأ اول امس على الجبهة الشرقية من رفح واحتلال المعبر هناك في خانة الرضوخ لمطالب وزراء اقصى اليمين في الحكومة. هذا بالاضافة الى رغبة نتنياهو وباقي الوزراء في مجلس الحرب في ممارسة اعلى انواع الضغوط على قيادات حماس، وعلى يحيى السنوار بالذات للقبول بالشروط الاسرائيلية لجهة التوصل الى هدنة ستة اسابيع لقاء تحرير بعض الاسرى الفلسطينيين واطلاق عدد من «الرهائن» الاسرائيليين.
يشكل تنفيذ عملية هجوم على رفح نقطة خلاف رئيسية بين نتنياهو وبايدن، وان القبول الاميركي بتنفيذها سيتوقف على قدرة نتنياهو على نقل ما يزيد على مليون ونصف لاجئ الى مكان آمن مع تأمين الماء والغذاء والامان لهؤلاء اللاجئين.
في ظل عدم توفر الضوء الاخضر الاميركي لتنفيذ عملية رفح فإن الحكمة والمنطق يدعوان نتنياهو الى دعم المساعي المصرية لتحقيق هدنة مؤقتة، والتي ستفتح الباب امام وصول المساعدات الانسانية الى اهالي غزة، بالاضافة الى افساح المجال امام المنظمات الدولية لدخول غزة، والقيام باعمال الاغاثة اللازمة للسكان، وبالتالي التخفيف من هواجس المؤسسات الانسانية والمجتمع الدولي من اثار حصول مجاعة للسكان وانتشار عدد من الاوبئة. وسينتج عن كل ذلك، دون شك، تخفيف الضغوط الدولية وخصوصاً محكمة العدل في لاهاي، والمحكمة الجنائية الدولية والحؤول دون صدور مذكرات توقيف دولية بحق نتنياهو مع اعضاء اخرين في الحكومة وبعض القادرة العسكريين.
سيؤدي تصرف الحكومة الاسرائيلية بعقلانية، وعلى عكس ما يدعو اليه وزراء اليمين أمثال بن غفير وغوتريتش، الى الاستفادة فعلياً من الفرصة الاستراتيجية الذهبية الراهنة، وتحقيق امكانية التطبيع مع المملكة العربية السعودية، وفتح الباب لمفاوضات، قد تؤدي لحل الدولتين، وتحقيق السلام الدائم وافشال جميع مخططات ايران وحلفائها في محور الممانعة.