الهجمة الإيرانية مستمرة في كلّ مكان، خصوصاً في اليمن. هناك مناورات عسكرية في محافظة صعدة يقوم بها الحوثيون، أي «انصار الله«. الرسالة موجّهة مباشرة إلى المملكة العربية السعودية التي لديها حدود مع هذه المحافظة الشمالية.
فوق ذلك، يقول الحوثيون إنّ هذه المناورات، التي تقتصر حتّى الآن، على تحريك دبابات وآليات أخرى استولى عليها الحوثيون، هي من النوع المشترك. أي بين «اللجان الشعبية« وهي ميليشيات تابعة للحوثيين، وقوات من الجيش اليمني. إنّها رسالة فحواها أنّهم صاروا الدولة اليمنية من جهة وأنّ مؤسسات تلك الدولة، أو ما بقي منها، باتت تحت تصرّفهم وفي إمرتهم من جهة أخرى.
لعلّ أخطر ما في الأمر ما وزعه الناطق باسم «انصار الله« عن اتفاقات وقعها الحوثيون باسم «الجمهورية اليمنية«، مع الجمهورية الإسلامية في إيران. قال الناطق بعد زيارة وفد يمني لطهران أنّه «تمّ التوقيع على إطار تفاهم للشراكة الاقتصادية الشاملة بين الجمهورية اليمنية والجمهورية الإسلامية. شمل الاتفاق الاحتياجات الأساسية في مجال الكهرباء والنفط والتبادل التجاري والاقتصادي وتعزيز التعاون الثنائي والاستفادة من الخبرات والإمكانات الإيرانية في كلّ المجالات«.
من هو الوفد اليمني الذي وقّع «إطار التفاهم«؟ من أين يستمدّ شرعيته؟ من سمح له بذلك؟ هل يكفي أن يكون عبدالملك الحوثي، زعيم «أنصار الله«، أعلن عن قيام نظام جديد تحت مسمّى «ثورة الواحد والعشرين من سبتمبر«، تاريخ وضع الحوثيين يدهم على كلّ صنعاء في ايلول/سبتمبر من العام الماضي، حتّى يسلّم العالم ومعه مجلس التعاون لدول الخليج العربية بقيام نظام جديد في اليمن؟
هل هذا كافٍ كي يكون هناك اعتراف بهذا النظام وبأنّ إيران صارت جزءاً لا يتجزّأ من المعادلة اليمنية؟
المطلوب، في ما يبدو، الاعتراف أكثر من أيّ شيء آخر، بأنّ إيران صارت، في أقلّ تقدير، جزءاً من هذه المعادلة. وهذا ما يفسّر عدم إغلاق مجلس التعاون باب المشاركة، أمام الحوثيين، في مؤتمر المصالحة اليمنية في الرياض. هل يقبل الحوثيون المشاركة كطرف يمني، أم يصرّون على أنّهم اليمن كلّه؟
هناك واقع تسعى ايران إلى تكريسه في اليمن، أقلّه في جزء من البلد، وذلك بعد فشلها في التقدم في اتجاه تعز وفي اتجاه المحافظات الجنوبية. يتمثّل هذا الواقع في تأكيد أنّ صنعاء والمنطقة المحيطة بها صارت تحت السيطرة وأنّ القرارات التي تتخذ في صنعاء مرتبطة مباشرة بما يقرّره المركز، أي طهران. طهران التي تمتلك قرار صنعاء.
تبدو إيران، مستعجلة على كلّ شيء. تبدو بكل بساطة المستفيد الأوّل من الرغبة الأميركية في التوصّل إلى اتفاق معها في شأن ملفها النووي. بالنسبة إلى إيران المهتمّة في التوصل إلى الاتفاق من أجل رفع العقوبات المفروضة عليها، أو التخفيف منها، هناك فرصة زمنية لا تعوّض. تتمثّل هذه الفرصة بوجود إدارة أميركية لا تفقه شيئاً في الشرق الأوسط نظراً إلى أنّها تعتبر أن الملفّ النووي الإيراني يختزل كلّ مشكلات المنطقة. هذه الإدارة مستعدة لتجاهل الدور الإيراني في سوريا والعراق وحتّى في لبنان وفلسطين. لماذا لا تستغلّ إيران الفرصة المتاحة؟
إذا توصّلت إلى إتفاق في شأن ملفّها النووي، يكون ذلك جيداً. وإذا لم تتوصّل إلى مثل هذا الاتفاق، ليس ما يمنع استغلال الموقف الأميركي لتحقيق مكاسب في كل منطقة عربية تسعى إلى أن يكون لها موطئ قدم فيها، أي في اليمن والعراق وسوريا ولبنان والبحرين.
لم يعد المسؤولون العسكريون في طهران يخجلون من القول إن إيران «حرّرت« بنسبة خمسة وثمانين في المئة من الأراضي السورية وجعلتها تحت سيطرة نظام بشّار الأسد ذي الصلاحية المنتهية.
لم يعد سرّاً قيادة قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس« في «الحرس الثوري« الإيراني المعركة في تكريت. صار هناك قائد إيراني للقوات العراقية التي تخوض تلك المعركة وإلى جانبها ميليشيات من أحزاب مذهبية عراقية. يفتخر قادة هذه الأحزاب للأسف الشديد، بالسير خلف سليماني والظهور معه في الصور…
بات المسؤولون في طهران يتفاخرون بوجود ميليشيا مذهبية في لبنان اسمها «حزب الله« وبأن هذه الميليشيا التي تسعى إلى الهيمنة على البلد هي نتاج «الثورة الإيرانية«.
لا شكّ أن الاندفاعة الإيرانية في اليمن لم تتوقف بعد، على الرغم من الحاجز الشافعي في الوسط والجنوب والتعبئة في أوساط القبائل في مأرب. ولكن ما يظل مطروحاً في نهاية المطاف ماذا ستفعل إيران بما حقّقته في العراق وسوريا ولبنان واليمن؟ هل لديها القدرة على البناء على ما تعتبره انتصارات لها؟
الجواب إنّ في استطاعة إيران التخريب وليس البناء. تستطيع إستغلال كلّ ثغرة عربية من أجل تحسين مواقعها. استغلّت «داعش« في العراق، واستغلّت التقصير الدولي في دعم ثورة الشعب السوري على نظام أقلّوي يريد استعباده، واستغلّت الرغبة الإسرائيلية الدائمة في وجود لبنان غير مستقرّ تكون فيه مجموعات مسلّحة غير خاضعة لسلطة الدولة. واستغلّت الانقلاب الذي نفّذه الإخوان المسلمون على علي عبدالله صالح من أجل الحلول مكانه…
استغلّت ايران قبل كلّ شيء الغياب العربي، أو على الأصحّ الاستفاقة العربية المتأخّرة على خطورة مشروعها التوسّعي القائم أساساً على الاسثمار في إثارة الغرائز المذهبية. ولكن ماذا بعد ذلك؟ هل يمكن لإيران أن تطرد السنّة العرب من العراق؟ هل تستطيع القضاء على الشعب السوري الذي يقف بأكثريته الساحقة في وجه النظام الذي أراد استعباده؟ هل تستطيع وقف المقاومة اللبنانية لثقافة الموت التي تريد فرضها في بلد متمسّك بثقافة الحياة، التي هي علّة وجوده؟
حتّى بالنسبة إلى اليمن الفقير، ماذا لدى إيران لتقدّمه؟ صحيح أنها مستفيدة من الظلم التاريخي الذي عانت منه المناطق التي يقيم فيها الحوثيون، على رأسها محافظة صعدة، لكن الصحيح أيضاً أن التذرّع بالظلم والحرمان الذي لحق بمجموعة من السكّان ليس سبباً كافياً للقضاء على ما بقي من مؤسسات الدولة اليمنية بحجة قيام نظام جديد مبني على اجتياح ميليشيا مذهبية لعاصمة هذا البلد.
لعلّ أسوأ ما في الأمر أن المشروع الإيراني مشروع من جانب واحد. هذا المشروع يدمّر الدول بدل أن يبنيها. ليس لدى إيران من نموذج تقدّمه، خصوصاً أنها بلد نفطي مضطر إلى استيراد النفط المكرّر، كما أنّ نصف الشعب الإيراني يعيش تحت خطّ الفقر.
المشروع الإيراني مخيف. لا يمكن لهذا المشروع إلّا أن يسقط ولكن بعد أن يكلّف المنطقة الكثير من الدمار والدمّ. الثابت أن اليمن ليس سوى نموذج ومثال صارخ على ما يمكن أن يحلّ، على يد إيران، ببلد مسكين آخر ما يحتاج إليه شعبه هو مزيد من السلاح ومزيد من التفتيت ومزيد من الفقر والبؤس والعصبيات المذهبية…