هي المرة الأولى التي تشن فيه إيران هجوماً عسكرياً مباشراً على إسرائيل إنطلاقاً من أراضيها. وهنالك الكثير من النتائج المترتبة عما حصل، إلا أنه لا بد من الأخذ في عين الإعتبار رُسوّ معادلة، وهي أنّ طهران باتت ملزمة بالرَد عند كل مرة تتعرّض فيها لاستهداف إسرائيلي.
صحيح أن إيران لا تريد بأي شكل التورّط مباشرة في أي حرب، إلا أنها كانت قد وضعت في وضع محشور جداً عند استهداف إسرائيل لقنصليتها واغتيال كبار قادتها المكلفين بالساحتين السورية واللبنانية، وبعد سلوك متأرجح منذ اندلاع الحرب في غزة. وهذا ما هَدّد صورة «هيبة الردع» الإيرانية، وهو ما حتّم عليها اتخاذ قرار الرد.
ولا شك أن طهران كانت تتوخّى نتائج عسكرية أفضل من تلك التي تحققت، لكن ثمة رسائل عدة وقطب مخفية في تلك الليلة الطويلة. وأول تلك الرسائل المشاركة الأميركية الفاعلة كي لا نقول الحاسمة، والتي يبقى عنوانها الأساسي أن الخلافات السياسية بين الإدارة الأميركية والحكومة الإسرائيلية شيء والالتزام الأميركي بأمن إسرائيل شيء آخر. وبالتالي، فإنّ أي تجاوز للخط الأحمر المرسوم سيفتح الباب أمام استخدام قوة الردع الأميركية. ولا شك أن إطلاق إيران للمسيرات والصواريخ في توقيت متقارب كان يهدف الى جعل مهمة التصدي للهجوم أكثر صعوبة. لكن التقنية العسكرية الأميركية المتطورة لعبت دورها وعمدت الى الحد من خطورة الهجمة. فقائد القيادة المركزية الأميركية الجنرال إريك كوريلا كان قد زار إسرائيل واجتمع مع القيادة العسكرية ليومين متتاليين. ومن ثم عمدَ الجيش الأميركي الى إعلان حال التأهب للأسطول الحربي المنتشر في المنطقة.
وهنا لا بد من ملاحظتين أساسيتين: الأولى أن التدخل الأميركي ضد الصواريخ كان يحصل بعد خروجها من الأجواء الإيرانية. وهذه إشارة لها معانيها بتجنّب خرق السيادة الإيرانية وبالتالي عدم استعداء طهران.
أما الملاحظة الثانية فتتعلق بالنسبة المرتفعة في صَد الصواريخ والمسيرات. والمقصود هنا أن الدفاعات الأميركية لم «تزغل» في ردها. ففي العام 1991 وخلال حرب العراق الأولى سجّلت بطاريات الباتريوت التي نصبت في إسرائيل نسبة متدنية في تَصدّيها لصواريخ سكود العراقية مقارنة مع البطاريات الأخرى التي نصبها الجيش الأميركي في بلدان الخليج. يومها، كان يتولى الأخصائيون الأميركيون تشغيل هذه البطاريات من دون مشاركة أحد. وقيل يومها انّ «زَغلاً» مقصوداً حصل في تشغيل البطاريات المنصوبة في إسرائيل بهدف إشعار الشارع الإسرائيلي بمخاطر الحروب، وبالتالي دفعه للذهاب الى التسويات السلمية، وهو ما حصل لاحقاً.
لكن هذه «اللعبة» لم تكررها واشنطن الآن، ربما مردّ ذلك الى انتزاع تعهّد من نتنياهو بعدم الذهاب الى رد على الهجوم الإيراني كي لا تنزلق المنطقة الى حروب مفتوحة. وقد تكون أيضاً دفعاً للجميع للذهاب باتجاه حلول تَسووية.
وفي هذا الإطار كان لافتاً جداً ما كتبه توماس فريدمان في النيويورك تايمز حول السياسة المؤذية التي يتّبعها نتنياهو في غزة. ودعا لوقف النار وترك السنوار يعلن انتصاراً وهمياً، وهو ما سيدوم لفترة قصيرة قبل أن ينقلب عليه الغزّاويون بسبب فقدانهم لمنازلهم واعمالهم وقوتهم. ويكشف فريدمان، وهو اليهودي الذي يحظى بتأثير في أوساط الجالية اليهودية الأميركية والقريب جدا من البيت الأبيض، أن واشنطن أنجزت تفاهما مع السعودية يتعلق بالتطبيع مع إسرائيل ويتضمن بنوداً تُجيز للرياض بناء مفاعل نووي للشؤون غير العسكرية وتزويد السعودية بأسلحة نوعية متطورة مع اتفاق أمني متقدم بين البلدين.
وقد يكون لتوقيت الهجوم الإيراني علاقة باستباق زيارة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الى واشنطن اليوم. فكما تقول «فورينز أفيرز» إنّ العلاقات الأميركية العراقية تعتبر «مفتاح» استقرار الشرق الأوسط. ففي بغداد شراكة أمنية وعسكرية وأيضاً اقتصادية مع كل من طهران وواشنطن في آن معاً. صحيح أنّ الإنسحاب العسكري الأميركي من العراق موضوع على الطاولة، لكن ثمة ملف أهم ويتعلق بالمصالح الإقتصادية. وعلى سبيل المثال هنالك عقوبات أميركية كانت قد طالت في وقت سابق 28 مصرفا بتهمة تهريب الدولار الى إيران. كذلك فإنّ اتفاقا سريا سابقا بين واشنطن وطهران كان قد قضى بتجريد المجموعات الكردية الإيرانية المعارضة لطهران من سلاحها وإبعادها عن الحدود مع إيران. وكان لهؤلاء دور في التظاهرات التي عَمّت إيران العام الماضي.
وما بين الأمن والاقتصاد تدرك واشنطن أن لمرشد الثورة الإيرانية أولويات أساسية، هو الذي أصبح في الـ 85 من عمره.
وأولى أولوياته ضمان استمرار «الثورة الإسلامية» في الحكم. وكذلك عدم الانزلاق في حروب مباشرة تؤدي الى تعريض مكانة إيران كما حصل في الحرب مع العراق. وأيضاً رفع العقوبات عن القطاعات الاقتصادية خصوصا الحيوية منها، مثل النفط، مع عدم المَس بالمعادلة الداخلية القائمة، وإرساء نفوذ إيران الإقليمي. وهذا يستلزم حصول تفاهمات عريضة خصوصاً مع الأميركيين. وهنا يكمن السبب الحقيقي لتوَجّس اليمين الإسرائيلي وعلى رأسه نتنياهو. فهو مُرتاب من المفاوضات السرية القائمة بين طهران وواشنطن عبر سلطنة عمان. ومن هنا يمكن قراءة أحد دوافع «الجرأة» الإسرائيلية في قصف القنصلية الإيرانية في دمشق. ومن هنا أيضا يمكن تفسير الهدف من اغتيال أبناء إسماعيل هنية وأحفاده. فالمقصود واحد، وهو الخربطة على أي تفاهمات قد تكون يجري حياكتها في كواليس مسقط.
وهنا لا بد من ملاحظة الموقف الرسمي السوري منذ اندلاع حرب غزة. وخلال الأيام الماضية جرى تعيين اللواء سهيل الحسن المحسوب على موسكو قائداً للقوات الخاصة السورية رغم توقف العمليات العسكرية الكبيرة. لكن القوات الخاصة الى جانب الحرس الجمهوري مسؤولة عن العاصمة دمشق ومحيطها.
وبعد البدء بتعديلات في الأجهزة الأمنية، يُحكى عن ورشة روسية ستبدأ لإنجاز هيكلية عسكرية جديدة عبر الإعداد لجيش «احترافي» يقوم على التطويع الوظيفي وليس على التجنيد الإجباري. ولهذا دلالاته الكبيرة.
ونتنياهو لا يريد اتفاقاً بين واشنطن وطهران، خصوصاً أن الموافقة على إقامة السعودية برنامجاً نووياً سلمياً إنما يعني ضمناً القبول بالبرنامج النووي الإيراني.
لكن نتنياهو «مَزنوق» انتخابياً، وهو يعمل على كسب الوقت بالسير بالحرب. وفي هذا الوقت يستمر أكثر في دغدغة غرائز اليمين وهو المشهود له بقدرته العالية على المناورة. فهو يوحي لليمين بأنه الوحيد القادر على الوقوف بوجه الضغوط الأميركية وبرفضه تدخّل واشنطن بالقرار الإسرائيلي، ما يعزّز صورة الزعيم القوي وبأنه أحد أقوى القادة التاريخيين لإسرائيل.
لكن حسابات نتنياهو فيها الكثير من المخاطرة، وهو ما أثبتته الساعات الماضية مع الهجوم الإيراني وحاجة إسرائيل الماسّة للمساعدة الأميركية.
وفي آخر الاستطلاعات أعربَ 71% من الإسرائيليين عن رغبتهم باستقالة نتنياهو لكن ليس قبل انتهاء الحرب، أما 60% منهم فيعتقدون بأنه يضع مصالحه السياسية قبل استعادة الرهائن.
ولكن على الضفة الأميركية انتخابات محشورة تكاد تحاصر الرئيس الأميركي وهو ما يراهن عليه اليمين الإسرائيلي. فلا حاجة للتذكير بأنّ بايدن غير القادر على مخاصمة اللوبي اليهودي، كان قد نال في الانتخابات التمهيدية ما نسبته 13% من الذين يرفضون التصويت له على أساس انهم من «غير الملتزمين».
باختصار، إن المنطقة دخلت في منعطفٍ حاد وكبير وخطير بعد الرد الإيراني. لكنه قادر لأن يكون مدخلاً للحلول بعدما لمس الجميع خطورة الاندفاع أكثر الى الأمام حيث الهاوية السحيقة تهدّد الجميع، خصوصاً أنّ الجميع يُحاذر الحرب الشاملة ولو أنه يُكابر بالمناورة والتهويل. وبالتالي، لا بد من رصد انعكاسات ما حصل على الساحات الأخرى الملتهبة بدءاً من غزة، مروراً باليمن وسوريا ولبنان، وربما أيضاً أوكرانيا.