في الأساس كانت الساحة الشرق أوسطية تعيش حال الفوضى بسبب الدخول في مرحلة انتقالية لترتيب الاحجام وخارطة النفوذ السياسي الجديدة قبل ولوج حقبة جديدة وكان العنوان العريض للمشهد او بتعبير أدقّ عمود الارتكاز لهذا المشروع هو إقرار العودة الى الاتفاق النووي الايراني.
لكنّ الشرق الاوسط المشهور تاريخياً بكونه يختزن المفاجآت غير المحسوبة لم يخرج النفط الذي سار عليه، وعلى الرغم من أن المفاجأة جاءت من مكان بعيد والمقصود هنا غَزو روسيا لأوكرانيا، إلا أنّ النتائج المباشرة لهذه الحرب ظهرت سريعاً في الشرق الاوسط، ما جعل الادارة الاميركية المستفيدة من التعثّر العسكري الروسي في اوكرانيا، تعاني من الارتفاع الكبير لأسعار الطاقة وهو ما ضاعفَ من المصاعب التي يعانيها الاقتصاد الاميركي لينعكس سلباً على شعبية الحزب الديموقراطي الحاكم. فالحرب في اوكرانيا نقلت السعودية من ضفة الدولة التي تعاني من استهداف عمقها الأمني وتهديد الرئيس الاميركي جو بايدن بجعلها منبوذة، الى الضفة المقابلة التي تمسك فيها بالشريان الوحيد القادر على إنقاذ الحزب الديموقراطي من مأزقه الانتخابي الداخلي ومنحه بعض الاوكسيجين القادر على انقاذه او على الاقل على التخفيف من استياء الشارع الاميركي نتيجة الارتفاع الكبير في الاسعار وسط وصول التضخّم الى مستويات مرتفعة.
وبعدما كان بايدن يرفض طلبات اللقاء بولي العهد السعودي او حتى التحدث هاتفياً معه، بات الامير محمد بن سلمان يمتنع عن الاجابة على اتصالات بايدن ويضع شروطا عديدة لزيارة بايدن الى السعودية كمدخل لرفع مستوى إنتاج النفط. وهو ما يعني انّ الاولوية أضحَت لإعادة ترميم العلاقات مع السعودية على حساب الملف النووي الايراني الذي ذهب الى الثلاجة ولو لفترة محدودة. لكنّ الشروط السعودية تطال في بعض جوانبها مسائل لها علاقة بالالتزام الاميركي الفعلي والعملي بحماية امن الخليج وبحضور أمني سعودي مباشر عند الممرّات المائية لناقلات النفط. هذا الانقلاب في الحسابات ضاعَف من حال الفوضى العارمة التي يمر بها الشرق الاوسط. أضِف الى ذلك استبدال مفاوضات فيينا بالضربات الامنية وانشغال روسيا في حربها في اوكرانيا ما أفقدها تفرّغها لإدارة التوازنات الدقيقة في سوريا، والترنّح الذي يهدد الحكومة الائتلافية الاسرائيلية. الثابت انّ حرب اوكرانيا ليس مُقدّر لها ان تنتهي في المرحلة المنظورة لا بل على العكس، وأبرز دليل على ذلك السعي الاميركي لتعويض النفط الروسي من الشرق الاوسط وتأمين مصادر بديلة لأوروبا عن الغاز الروسي وأحد هذه المصادر هو الساحل الشرقي للبحر المتوسط. ورغم هذا الاحتقان، وبعيداً عن التهديدات العلنية، الا أنّ الحسابات لا تلحظ الذهاب الى المواجهة المفتوحة في الشرق الاوسط مع إيران. فلا واشنطن في هذا الوارد، ولا حتى طهران. وقد أعطت إيران دليلاً واضحاً على ذلك، فبعد ان صوّتت الوكالة الدولية للطاقة الذرية بدعوة ايران الى التعاون الكامل مع مفتشي الامم المتحدة في التحقيق في ثلاثة مواقع نووية غير معلنة، ردّت ايران بفصل 27 كاميرا كانت قد بدأت تعمل منذ ولادة الاتفاق النووي عام 2015. وهي خطوة قوية تعطي الانطباع بأنّ إيران ذاهبة الى رفع مستوى التخصيب وصولاً الى إنتاج القنبلة النووية.
ولكن، ومع شيء من التدقيق، يتبيّن بأنّ هذه القراءة متسرّعة وغير دقيقة، ذلك انه لا يزال لدى الوكالة الدولية أكثر من 40 كاميرا ما تزال تعمل. وهنا يصبح الاستنتاج أكثر وضوحاً فالرَد الايراني لا يوجّه ضربة قاتلة الى الاتفاق النووي كما اعتقد البعض، بل رسالة اعتراضية قوية مع الابقاء على «خيط» العودة الى الاتفاق من خلال الابقاء على الكاميرات الاخرى. لكنّ الصراع الشرس حول الاتفاق النووي ومن خلاله حول حدود الدور والنفوذ الايرانيين في المنطقة لا يقتصر فقط على هذه الناحية. فداخِل واشنطن صراع أعنف يختلط فيه العامل السياسي بالدافع الانتخابي.
ففي الكونغرس يسعى الجمهوريون لخفض التمويل في مشروع الموازنة، للامم المتحدة ولبنان والعراق وقطع الاموال التي لها علاقة بتنفيذ الاتفاق النووي ووَقف المساعدات التي يستفيد منها بعض القوى المصنفة في خانة إيران، كـ«حزب الله» مثلاً.
ولا شك انّ الجمهوريين يدركون بأنّ مطالبهم ستسقطها الاغلبية الديموقراطية، لكنهم ارادوا توجيه رسالة الى البيت الابيض مفادها بأنهم إذا حازوا الاغلبية في الانتخابات النصفية، فسيعمل الجمهوريون على تقويض برنامج السياسة الخارجية لإدارة بايدن في الشرق الاوسط. هذا الضجيج المُتبادَل بين واشنطن وطهران لا يعني ابداً انّ الاتفاق النووي انتهى، لكنه يريد ان يقول من جانب ادارة بايدن إنّ على طهران ان تنتظر بعض الوقت وان تخفض من سقف مطالبها.
ويقول من جانب طهران انها لا تريد ان تنتظر أكثر، فهذا يضرّ بمصالحها خصوصاً وسط تظاهرات احتجاجاً على الوضع الاقتصادي الصعب، وهذه الرسالة حملها القصف الذي طال محيط القنصلية الاميركية في أربيل، ولو انه جاء في سياق الضربات الامنية المتبادلة في الشرق الاوسط.
وبخلاف بعض القراءات المتسرّعة، فإنّ واشنطن لن تذهب الى مرحلة العمل على إسقاط النظام في إيران. فدوائر صناعة القرار ما تزال تعتقد بأنّ الجمهورية الاسلامية الايرانية ما تزال نظاماً شابّاً وهي لم تصل بعد الى مرحلة الشيخوخة والترهّل. عدا عن انّ النظام الجديد الجاري بناؤه في الشرق الاوسط للمرحلة المقبلة يَلحظ إيران كمحور اساسي.
أضف الى ذلك أنه وعلى الرغم من الفوضى الحاصلة، فإنّ أيّاً من الاطراف لم يتجاوز الخطوط الحمر. فحتى تهديد قائد الحرس النووي حول نصيحته للدول الصديقة في الخليج بعدم إقامة علاقات مع الكيان الاسرائيلي، إنما جاء كرد على تصريح رئيس الحكومة الاسرائيلية حين اعتبر انّ ايام الحصانة لإيران قد وَلّت، وأنّ اسرائيل ستتصرف امام إيران في اي مكان وزمان.
لكن هذا لا يعني تجاوز الخطوط الحمر، بل رفع مستوى الحماوة لضرورات المرحلة. طبعاً كل هذه الصورة الملبّدة والمعقّدة، وخصوصاً رسالة الجمهوريين في الكونغرس الاميركي، تُغري السعودية لمزيد من «الدلال» امام الرئيس الاميركي.
لكن لكل هذا المشهد حدوداً زمنية لا يمكن تجاوزها، والبعض يحددها بأشهر الصيف لا أكثر. فمن جهة هنالك الانتخابات النصفية الاميركية والتي تبدو نتائجها حتى الآن وخيمة على الحزب الديموقراطي، والأهمّ هنالك الطاقة التي تحتاج لها اوروبا قبل قدوم فصل الشتاء والحلول موجودة في الشرق الاوسط.
وهو ما يعني أولاً بأنّ الادارة الاميركية تعطي في المرحلة الحالية الاولوية للعلاقة السعودية.
وثانياً بأنّ الاهداف التي يتوخّاها بايدن من زيارته الى السعودية لم تكتمل بعد، ولكنه مُصرّ عليها، بدليل تأجيل زيارته، ولكن لأسابيع معدودة فقط.
وثالثاً انّ الملف النووي سيبقى على الرف حالياً وربما الى ما بعد الانتخابات النصفية مع زيادة الضغط الأمني والاقتصادي على إيران وتَوقّع المبادلة بالمِثل، ولكن تحت سقف مضبوط جداً من قبل الطرفين.
ورابعاً انّ لبنان مُلزم بإيجاد الحل المطلوب حول ترسيم الحدود البحرية كي يصبح من الممكن البدء بتزويد اوروبا بالغاز بدءاً من نهاية الصيف. وإلّا فإنّ لبنان سيغرق أكثر في جهنم انهياراته، ولن تصل إليه أي مساعدات.
وعُلم في هذا الإطار انّ الرئيس الفرنسي طرح على واشنطن اقتراحاً بالذهاب الى تسوية لبنانية من دون انتظار التفاهم الاميركي – الايراني حول النووي لأنّ أوضاعه لا تسمح بالانتظار أكثر، أضف الى ذلك برنامج استحقاقاته وخصوصاً استحقاق رئاسة الجمهورية، والذي يجب ان يسبقه تفاهمات سياسية من خلال مؤتمر لا بد من عقده.
وستسعى باريس لاستمزاج رأي «حزب الله» في هذا الإطار، مع الاشارة الى النقاط الايجابية التي أبداها الحزب في موضوع ترسيم الحدود البحرية حين وضعها على مسؤوليته الدولة. واعتبر ذلك كمؤشّر ايجابي، رغم انّ الكلام العالي السقف هدفه احتواء الشارع لا التحضير لتنفيذ تحركات عملية وميدانية.