لطالما كانت الديبلوماسية الإيرانية قائمة على التقليل من العداوات والخلافات ومن التحريض، مقابل ماكينة أميركية وعربية ضخمة تعمل لإثارة الفتن الطائفية والمذهبية في العالم الإسلامي، باعتبار أن هذا هو الدور الطبيعي لأي ديبلوماسية تتبنى مشروعاً استنهاضياً بوجه الهيمنة الغربية.
في لبنان اعتمدت إيران هذه السياسة، بحيث أن سفراءها المعتمَدين في بيروت كانوا يَجولون على كل الأطراف السياسية اللبنانية، حتى الأكثر خصومة مثل حزب “الكتائب” باستثناء “القوات اللبنانية” بسبب قضية خطف الديبلوماسيين الإيرانيين الأربعة، كما أن الزيارات تشمل كافة المرجعيات الروحية، هذا الحراك الديبلوماسي الإيراني ليس مستجداً، ولا علاقة له بالتفاهمات الباردة مع المملكة العربية السعودية، كما يقول البعض، لكن قد يزيد تبعاً للملفات الحيوية التي تحتاج إيران فيها الى توضيح استراتيجياتها ومواقفها مما يجري من أحداث في المنطقة.
في الآونة الأخيرة تصاعدت لهجة بعض الأطراف اللبنانية بوجه طهران، بحيث ظهرت موجة هجوم سياسي وإعلامي كبيرة من اتهامات وتحريض وتطاول، الى درجة اعتماد تسمية “الاحتلال الإيراني” وإنشاء مجلس لمواجهته مصحوب بحملة إعلامية مُمنهجة تروِّج لهذه الفكرة.
عند تصاعد هذه الموجة، خرج الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله متصدياً لهذا الكلام والاتهامات بالدليل والوقائع، في بلد يكاد يُعرَف ويُصرِّح ويَظهر إعلامياً سفراء الدول فيه أكثر من مسؤوليه، الى حد إصدار تصريحات علنية تتعلق بشؤون البلد الداخلية، إلا سفير الدولة المتهَمة بالتدخل، الى درجة قول السيد نصرالله إن هناك كُثراً لا يعرفون اسم وشكل سفير الجمهورية الإسلامية، جازماً أن إيران لم تتدخل في الشأن اللبناني على مدى 40 عاماً.
في ظل هذا الهجوم الشرس على طهران، لم يصدر من مسؤول إيراني زار لبنان أو سُئل عنه، ولا حتى من سفيرها في بيروت أي رد على كل هذه الاتهامات، وإنما مَن يُدقِّق بالمشهد ويراقب حراك السفير مجتبى أماني، يرى أن إيران اعتمدت سياسة استيعابية لمختلف الأطراف بـ “الأداء”، بحيث قام السفير بعدة خطوات تُترجِم عملياً هذا النهج في السياسة الديبلوماسية:
١- أسس السفير الإيراني في بيروت مجتبى أماني محطة دورية “للتلاقي والدردشة” مع الإعلاميين والنُخب اللبنانية، ليستمع من خلالها لهواجسهم وتطلعاتهم. واللافت أن مروحة ضيوفه خلال تلك المحطة، لا تقتصر فقط على إعلاميين أصدقاء للجمهورية الإسلامية يتوافقون معها في الآراء ووجهات النظر، بل تشمل شخصيات إعلامية تُعَد من صقور المخالفين لها، بحيث أن مثل هذه اللقاءات من وجهة نظر أماني تصب في صالح تفادي القطيعة وتقريب المسافات ووجهات النظر المتباعِدة، واستيعاب مختلف الآراء والبناء عليها إيجاباً في سبيل تدعيم العلاقات مع لبنان بمختلف فئاته وتوجهاته. وقد وصل الأمر بأحدهم الى حد القول ممازحاً إن “السفير مجتبى أماني يُخصِّص وقتاً لمناقشة المختلفين معه بالآراء أكثر مما يلتقي بالأصدقاء”.
٢- على مستوى ظهور السفير الإعلامي يُلاحَظ التنوُّع، بحيث أن في سجّله مقابلات تلفزيونية مع قنوات غير مألوف عادة رؤيته عليها، من بينها مثلاً قناة “أو تي في” التي لاقت رواجاً كبيراً في حينها، ما يعني أن هناك إمكانية لرؤيته على تلفزيونات أخرى، عدا أن العارفين بشخصه يجزمون أنه منفتح على النقاش في شتى الموضوعات، دون أي ضوابط أو حواجز أو تحفظات، فهو حريص على الدور الإيجابي الذي تؤديه بلاده على مستوى لبنان والمنطقة ككل، وأن يعكس ذلك من خلال أدائه الذي يبتعد فيه عن التصادم والمفردات المثيرة للخلاف والجدل، كما لم يُسمَع منه أي تصريح فيه تدخل بالشؤون اللبنانية أو أي خرق للأعراف الديبلوماسية.
٣- سفير الجمهورية الإسلامية تمتد أنشطته على كامل الأرض اللبنانية من أقصى الجنوب إلى البقاع والشمال، بحيث أنه شارك في إفطار أقامه الشيخ أحمد القطان في برإلياس، كما أن لقاءاته المتنوعة شملت شخصيات سياسية ودينية من مختلف الطوائف والمذاهب، من بينها استضافة رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” السابق وليد جنبلاط على العشاء في السفارة قبل مدة.
٤- ينتهج السفير الإيراني سياسة الديبلوماسية الشعبية، بحيث قد تصادفه في مراسم تأبين أحد الشهداء أو مستقبِلاً عوائلهم بعد ساعات من لقاء رسمي يجمعه بمسؤول لبناني أو رئيس حزب.
أما الخطوة التي كانت لافتة في ظل أشرس معركة مع العدو الصهيوني، والتي جسّد فيها أماني سياسة المواجهة مع “إسرائيل” من موقعه كممثل لبلاده، خاصة بعد إستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، حيث أنه لم يخشَ التهديدات “الإسرائيلية”، فتقصّد إحياء إفطار يوم القدس العالمي في باحة السفارة الخارجية، في رسالة قوّة وتحدٍّ لـ “الإسرائيلي”.