إذا كان الاستعراض العسكري لـ«حزب الله» في القصير السورية «برقية» إيرانية سريعة رداً على توعّد دونالد ترامب ومستشاريه بالتصدي للتمدد الإيراني الخارجي، فإن التلميع الاستثنائي لدور «الباسيج» المتفرع عن «الحرس الثوري» والتغني بأدواره وصولاً إلى طرح تعميمها! هو «رسالة» مسهبة من طهران تحمل وعوداً مضادة لوعود الرئيس الأميركي المُنتخب في شأن كل ما يتعلق بإيران وسياساتها، وليس فقط في شأن أدوارها وأدواتها الخارجية.
وذلك أداء إيراني مألوف، بحيث إن لا المرجع الأعلى علي خامنئي ولا غيره من المسؤولين في طهران آثروا اعتماد أي طريقة سياسية أو ديبلوماسية أو إعلامية، للرد على المخاطر التي طرحها فوز ترامب، وعلى المواقف الحادة والمباشرة التي أعلنها بعض الكبار في فريقه، وعلى مشروع تمديد العقوبات في الكونغرس.. بل راح هؤلاء إلى الطريقة الوحيدة التي يعتبرونها ناجحة ومربحة: التلويح بالقوة والعنف وأدواتهما. ثم الإصرار على البقاء في إطار سياسة إشعال الحرائق وابتزاز الخارج بالنار والتخريب.
أما كيف يمكن أن تصرّ القيادة الإيرانية على التمسك باتفاق تمّ بين «دول» من خلال التلويح باعتماد منطق الميليشيات والسياسات الناتجة عن المخزون «الثوري»، فتلك خاصية إيرانية لم يسبق لها مثيل، حتى إبّان الحرب الباردة. حيث تبيّن (مثلاً) بعد انتهائها، أن معظم منظمات الإرهاب اليساري في أوروبا والشرق الأوسط خصوصاً، كانت موصولة بالاستخبارات السوفياتية، في حين أن موسكو «الرسمية» كانت دائماً في طليعة المستنكرين لأي عمل إرهابي صادر عن تلك المنظمات!
أي أن منطق الدولة شديد الوضوح ولا يحتمل الزوغان ولا الازدواجية المعلنة! والأمر هنا يتصل بالسياسات الفوقية الواضحة والخاضعة لأعراف وتقاليد حساسة، وليس بالعوالم السفلى الخاصة باعتماد العنف في موضع السياسة، أو لتحقيق ما تعجز عنه السياسة! أي حتى الاتحاد السوفياتي في ذروة قوته وجبروته وانخراطه في حروب بالواسطة مع المعسكر الغربي من جنوب شرق آسيا إلى أميركا الجنوبية إلى إفريقيا إلى المنطقة العربية، آثر عدم الخلط العلني بين «الدولة» و«الثورة» و«الشرعي» والشارعي!
وحدها إيران تعتمد الازدواجية في سياساتها وتضع العنف واستخداماته في قمة أجندتها! وربّ قائل بأنها تفعل ذلك لحماية «أمنها» و«مصالحها» طالما أنها «مستهدفة»! لكن العطب المركزي في هذه التوليفة هو أنها تعتبر أن «أمنها» و«مصالحها» لا يتأمّنان من دون المسّ بأمن الآخرين ومصالحهم! ومن دون الفتك أو محاولة ذلك، باستقرار دول وكيانات وأنظمة في الحيّز الجغرافي الخاص بتلك الدول والكيانات والأنظمة وليس العكس. أي أن أحداً اليوم لا يُجادِل في أن إيران هي التي تتدخّل في جوارها العربي والإسلامي وأن الحروب مندلعة نتيجة ذلك، في اليمن والعراق وسوريا، وليس في قم أو مشهد أو طهران أو غيرها من المدن والحواضر الإيرانية، نتيجة تدخّل هذا الجوار في شؤونها!
الواضح في كل حال، هو أن إيران التي استمرأت تلك الازدواجية وحققت من خلالها ما تعتبره «إنجازات» لها ولمشروعها وطموحاتها ومصالحها، تشعر اليوم، مع دونالد ترامب وفريقه وطروحاته أنها مهددة بخسارة تلك «الإنجازات».. ودفعة واحدة!