من الأمور المحيرة حين يسعى المرء إلى تحليل مواقف بعض الدول وسياساتها في إطار معين، أن تراها تتناقض كلية مع مواقفها في مكان ومجال آخرين. كيف يمكن تفسير وتحليل موقف إيران في الاجتماع الأخير للدول المصدرة للنفط (أوبك) الذي عقد يوم الخميس الماضي في فيينا وأن تتفق إيران مع المملكة العربية السعودية وبقية الدول الـ14 الأعضاء في «أوبك» حول التخفيضات المطلوبة في إنتاج النفط للمحافظة على استقرار أسعاره في الوقت الذي تتسم فيه مواقفها في الأزمة اليمنية وتجاه السعودية بالعدوانية والرغبة في تنفيذ أجندتها التوسعية في المنطقة؟ هل اختلاف سياسة إيران في نطاق «أوبك» ومواقفها السياسية الأخرى خارج المنظمة يعود إلى معرفة حدود قوتها وحجم إمكاناتها من ناحية الإنتاج والاحتياطي النفطي داخل «أوبك» مقارنة بما تمتلكه السعودية، أم إن طبيعة منظمة «أوبك» بصفتها منظمة نفطية مختصة تضم دولاً أخرى عربية خليجية وأخرى من أفريقيا وأميركا اللاتينية، تجعلها تتوافق معها في بلورة سياسة مشتركة فيما بينها حفاظاً على مستويات أسعار النفط؟ ولماذا تاريخياً كانت إيران بعد قدوم الخميني تتعارض سياستها مع بعض الدول، ومع سياسة المملكة النفطية بينما هذه المرة التقت سياستها مع المملكة؟ هل مصدر هذا التطور يعود إلى أن إيران اليوم بعد أزمة الملف النووي الذي أدى إلى فرض عقوبات على صادراتها النفطية، أكثر حاجة إلى استقرار أسعار النفط كبقية أعضاء «أوبك» الذين نجحوا في تحقيق ذلك عبر إقامة تنسيق مع دول خارج المنظمة (أوبك+) مثل روسيا، لإجراء التخفيضات اللازمة في مستويات إنتاج النفط… بينما يختلف الأمر كلية في مجال السياسة الإقليمية وكيفية التعامل معها بين القوتين الإقليميتين في المنطقة؛ وهما السعودية وإيران؟
ففي مطلع شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي سعت إيران إلى بثّ رسائل تدعو للسلام وقبول الحوار مع السعودية من خلال التصريحات التي أدلى بها وزير خارجيتها محمد جواد ظريف بالإضافة إلى المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الإيرانية، في محاولة لإيهام العالم بوصول رسائل سعودية تطلب التفاوض!
والمضحك والمبكي في هذا الشأن ما ذكره وزير الخارجية الإيراني لشبكة «سي إن إن» الأميركية حول استهداف «أرامكو» من أن مسؤوليته تقع على الحوثيين؛ وليست على إيران نفسها المسؤولة عن ذلك الهجوم؛ الأمر الذي دعا الأمير خالد بن سلمان، نائب وزير الدفاع السعودي، إلى القول ضمن سلسلة تغريدات عبر حسابه على «تويتر»: «حديث النظام الإيراني عن تهدئة في اليمن، وربطها بمحاولة الخروج مما يواجهه من أزمات، هو استغلال ومتاجرة رخيصة باليمن وشعبه بعد أن أشعل النظام الإيراني الأزمة في اليمن واستمر في تأجيجها».
وتأكيداً على ما قاله الأمير خالد بن سلمان من استمرار إيران في تأجيجها الأزمة اليمنية، ضبط سفينة حربية أميركية الأربعاء الماضي أجزاء صواريخ إيرانية كانت في طريقها للميليشيات الحوثية، مما يعدّ انتهاكاً صريحاً لقرارات مجلس الأمن الدولي التي حظرت على طهران تقديم أو بيع أو نقل أسلحة خارج البلاد ما لم تحصل على موافقة من مجلس الأمن.
من الواضح أن التهدئة المزعومة والسلام في اليمن الذي تدّعيه إيران لا يتوافق مع تزويدها أتباعها بالأسلحة والصواريخ التي تستهدف اليمن وأمن السعودية ودول المنطقة العربية.
من هنا سعت المملكة إلى البحث عن مسارات جديدة، إنْ صح التعبير، لتقويض التمدد الإيراني في اليمن والمنطقة، وفي سبيل ذلك، فإن أحد المسارات المهمة تمثل في استكشاف فرص السلام مع الحوثيين، وتنقية العلاقة بين السلطة الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي، وتطبيع العلاقات بين دول مجلس التعاون الخليجي.
أشرنا في نهاية مقالنا الأخير إلى تصريح ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الذي عبّر فيه عن أمله في أن يفتح «اتفاق الرياض» آفاقاً لتفاهمات أخرى مع بقية أطراف الأزمة اليمنية.
ومعلوم أن أحد الأطراف الرئيسية في الأزمة اليمنية هم جماعة «أنصار الله} (الحوثيون)، والمعروف تاريخياً أيضاً أن المملكة العربية السعودية منذ عهد مؤسسها الملك الراحل عبد العزيز آل سعود ربطتها علاقات وثيقة بالمملكة المُتَوَكِّلية اليمنية عبر «معاهدة الطائف» الموقّعة بينهما في مايو (أيار) 1934، وهي منذ ثورة سبتمبر (أيلول) 1962 التي أطاحت الإمامة، في علاقة وطيدة لأكثر من نصف قرن مع غالبية النخب والقوى السياسية في اليمن، وقد يسهل هذا مد الجسور للتحاور حول كيفية إنهاء الحرب وشروط فك الارتباط بين الحوثيين والنظام الإيراني.
فحركة «أنصار الله» تختلف عن جماعة «حزب الله» في لبنان، و«الحشد الشعبي» في العراق، فهم أقلية سكانية في اليمن مقارنة بالشيعة في العراق، والنفوذ الإيراني جاء بعد تغلغلهم في لبنان منذ عقود، في حين وجودها في العراق واليمن حديث نسبياً.
وقد عبر صراحة السفير البريطاني لدى اليمن مايكل آرون عن رأيه بإمكان فصل الحوثيين عن إيران في رده على سؤال من صحيفة «الشرق الأوسط» بتاريخ 1 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ولا شك في أن إجابته لا تعبّر عن رأيه الشخصي بصفته فرداً؛ وإنما عن موقف بلاده الأكثر خبرة بدول المنطقة.
على الجانب الأخر، تبقى إشكالية التعامل مع الشرعية اليمنية التي تتجاذبها أطراف عدة تمتزج فيها المناطقية التي تعطل نفاذ «اتفاق الرياض» بين الشرعية والمجلس الانتقالي الجنوبي. وآخر مثال على ذلك تشكيل حكومة جديدة من الكفاءات كان من المقرر إعلانها في 5 ديسمبر (كانون الأول) الحالي، ولم يتم الإعلان عنها حتى كتابة هذه السطور، وكل طرف وجّه الاتهامات للطرف الآخر حول مسؤوليته عن عرقلة تنفيذ «اتفاق الرياض»، مما جعل البعض يعبّر عن مخاوفه من أن يكون مصير «اتفاق الرياض» كمصير «اتفاق استوكهولم» الذي وقّع تحت إشراف الأمم المتحدة وعُلّق كثير من بنوده حتى الآن.
والمحزن أنه زاد الانفلات الأمني وارتفعت حالات الاغتيالات لكوادر جنوبية في عدن من عسكريين وأمنيين ومن السلكين القضائي والطبي، بمعدل عملية واحدة كل يوم على الأقل؛ حسب بعض المعلومات المتداولة في وسائل التواصل الاجتماعي.
الأمر المؤكد أن تطويق التمدد الإيراني؛ ليس فقط على مستوى الأزمة اليمنية؛ بل على مستوى المنطقة، يتطلب تأمين الممرات المائية الدولية من باب المندب إلى بحر العرب، التي يطل عليها جنوب اليمن، وبتأمينها عربياً تفقد إيران إمكانية السيطرة عليها عبر وكلائها المحليين في محاولتهم إفشال «اتفاق الرياض».