بات واضحاً أنّ الزيارة «الطارئة» التي قام بها وزير الخارجية الإيراني عباس عرقجي الى بيروت، أدّت إلى فرملة الإندفاعة الغربية في اتجاه لبنان، والتي شكّلت فرنسا رأس حربتها، إثر زيارة وزير خارجيتها جان نويل بارو، والتي حملت بشائر تفاهمات مهمّة وأساسية، والتي توّجها خلال لقائه بالرئيس نبيه بري.
وتردّد أنّ بارو كان قد نجح في تسويق مشروع لوقف الحرب الإسرائيلية على لبنان، ويرتكز على نقطتين أساسيتين: الأولى، وتقضي بالإعلان بوضوح عن فصل وقف إطلاق النار في لبنان عن غزة، والثانية بالشروع فوراً في الخطوات العملانية والسياسية، كما وردت في الورقة الفرنسية ـ الأميركية، بدءاً من انتخاب رئيس للجمهورية. وخطوة بارو كانت قد استندت الى جملة معطيات في طليعتها الدعم الأميركي الكامل، وفي الوقت نفسه وجود مرونة إيرانية في هذا الإتجاه. فقبل بارو كان الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان قد زار بيروت في مهمّة لم تثمر بسبب بدء الضربات الجوية الإسرائيلية الواسعة، ما جعل جهوده متأخّرة وخارج السياق الحربي القائم. لكن لودريان، والذي كان أشاع تفاؤلاً كبيراً قبل مجيئه إلى بيروت وقبل انفلات الوضع، كشف في جلساته المغلقة مع المسؤولين اللبنانيين، أنّ تفاؤل باريس كان قائماً على أجواء جديدة لمستها من طهران، والتي أظهرت مرونة كبيرة في ملف الإستحقاق الرئاسي. ولا بدّ من الإشارة الى أنّه في تلك الفترة كان الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان يزور نيويورك برفقة أولاده، ويدلي بمواقف ودية جداً تجاه «الصديق» الأميركي، ويعلن بأنّه سيُعاد فتح الملف النووي مع الأوروبيين. وكذلك كانت واشنطن توقّع اتفاقاً مع بغداد يقضي بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في العراق في أيلول من السنة المقبلة.
لكن الأمور تبدّلت بسرعة، ونجح رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو في فرملة هذه الإندفاعة، ما حال دون التقاط الإدارة الديموقراطية ورقة مهمّة جداً. فجاء اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، ما استتبع رداً إيرانياً أكثر جدّية من ردّ نيسان الماضي، وهو ما أدّى الى تدحرج الأمور ونسف الإيجابيات التي كانت قد ظهرت. وللتذكير فأنّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان أجرى اتصالاً متوتراً مع نتنياهو حول الوضع في لبنان.
لكن تدهور الأوضاع اللبنانية إلى مستويات مريعة وسقوط لبنان تحت وابل الضربات الإسرائيلية، دفعا بالوزير الفرنسي للتحرّك مجدداً وبالتنسيق مع واشنطن، التي اعتبرت أنّ تدهور الأوضاع يمكن أن يشكّل فرصة لإنجاز الحلول. وبالفعل سمع بارو ما كان يريده في بيروت، وقبل ذلك في السعودية، التي أبدت اهتماماً أكبر من السابق، رغم ما قيل عن رهان الرياض حول عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. لكن إيران، والتي باتت على تماس مباشر مع جموح نتنياهو، بدت قلقة من استغلال نتنياهو للظروف والسعي لضرب منشآتها النووية، وهو ما شجّع عليه ترامب وسط ضعف إدارة بايدن. فكانت زيارة عرقجي المفاجئة لبيروت من أجل إعادة لملمة صفوف الثنائي الشيعي وإجهاض ما توصل إليه نظيره الفرنسي. وعدا أنّ لقاءه بالرئيس نجيب ميقاتي لم يكن ودياً، فإنّ تصريحه من عين التينة كان معاكساً لما التزم به بري مع ميقاتي، وحيث أعاد الربط بين جبهتي لبنان وغزة. وقيل إنّ عرقجي عمل على نسف الإقتراح الفرنسي بشقيه: فصل لبنان عن غزة والشروع في الإنتخابات الرئاسية.
لكن الواقع المريع الذي يطاول لبنان وعلى وجه الخصوص المناطق ذات الغالبية الشيعية، حمل حزب الله وللمرّة الأولى منذ تأسيسه على التمايز في البند المتعلق بالربط بين غزة ولبنان، وبخلاف البند المتعلق بالإستحقاق الرئاسي الذي عاد الى المربّع الأول.
من الواضح أنّ طهران عملت على تجميع أوراقها مجدداً لكي لا تصبح وحيدة في مواجهة نيات نتنياهو تجاه منشآتها النووية.
وفي واشنطن لا ينفع التكرار، أنّ جو بايدن غاضب من نتنياهو، ذلك أنّ هذا الغضب لا يمكن ترجمته على أرض الواقع، وهو ما أثبتته الأحداث أقلّه منذ عام. ولم يكن مفاجئاً ما أورده الصحافي الأميركي المعروف برصانته بوب وودوارد في كتابه الجديد، بأنّ بايدن نعت نتنياهو بعبارات مهينة ووصفه بالرجل السيئ جداً بسبب الحرب على غزة، لكن ورغم ذلك فإنّ المرشحة الديموقراطية كامالا هاريس أدهشت الجميع حين أعلنت أنّ إيران وليس الصين هي الخطر الأول على بلادها، وذلك في مقابلة لها على شبكة «سي بي أس» الأميركية. صحيحٌ أنّ كلامها انتخابي، لكنه يعكس مدى أهمية التأثير الإنتخابي اليهودي، وهو ما يجعل نتنياهو في منتهى الخطورة من الآن وحتى الخامس من تشرين الثاني المقبل. صحيحٌ أنّ إسرائيل غير قادرة على توجيه ضربات جوية لإيران من دون مساعدة أميركية، ولكن واقع الأمر أنّ إدارة بايدن أصبحت ضعيفة جداً، وأنّ نتنياهو قادر على خداع بايدن من دون أن يخشى ردّة فعلها.
وعامل القلق الإضافي لدى طهران سببه توافق جميع القوى السياسية الإسرائيلية على توجيه ضربة لها وضدّ حزب الله أيضاً. فمثلاً كتب نفتالي بينيت، رئيس الحكومة السابق والمعارض لنتنياهو بكل قراراته تقريباً، على وسائل التواصل الاجتماعي، بأنّ إسرائيل تتمتع الآن بأعظم فرصها منذ 50 عاماً لتغيير وجه الشرق الأوسط، ما يحتم التحرك لتدمير البرنامج النووي الإيراني ومرافق الطاقة «فلدينا المبررات والأدوات، فإيران أصبحت مكشوفة بعدما أصبح حزب الله وحماس مشلولين».
ولذلك، جاء عرقجي الى بيروت بهدف إجهاض الحل الفرنسي ـ الأميركي. وهو توجّه الى الخليج طالباً الدعم خصوصاً لمصلحة حزب الله في مقابل استكمال إصلاح العلاقة الخليجية مع حزب الله. لكن الجواب الخليجي جاء بارداً ومفضلاً البقاء خارج النزاع القائم. وأعقب هذا الأفق المقفل تهديد المسؤول العسكري في كتائب حزب الله العراقي بحرق المنشآت النفطية في المنطقة. لكن التهديد بدا ضعيفاً، وهو لم يقلق الخليجيين كثيراً.
في هذا الوقت عمدت إسرائيل الى زيادة قواتها عند الحدود مع لبنان لتصل الى أربع فرق، ما أوحى بقرب التحرّك الواسع.
ووفق كل ما سبق، فإن الإستنتاج واضح بأنّ الجهود الفرنسية لأخذ لبنان الى تسوية تمّ وضعها جانباً. وتراجع التفاؤل الذي كان ساد الإجتماع الذي عقده سفراء الخماسية في قصر الصنوبر الأربعاء الماضي وبقي بعيداً من الإعلام.
وقد يكون الحل في حاجة إلى تصعيد جديد يسمح بإنضاج الأجواء على رغم من أنّ الأوضاع في لبنان باتت مزرية، خصوصاً على المستوى الإجتماعي.
ووفق أوساط ديبلوماسية فرنسية، فإنّ بارو عندما التقى قائد الجيش عرض أمامه المبادرة التي يحملها، ولكن من دون التطرّق الى أي تفاصيل أو أسماء رئاسية، وكانت نصيحة العماد جوزف عون بأنّ المسار الفعلي لنجاحها يقتضي الشروع أولًا بوقف إطلاق النار، وهو ما لم يحصل.